يقعُ لبنان اليوم وسط تجاذبات داخلية عنيفة بين تيارين؛ يدعو الأول إلى حياد البلد كلياً، وتؤيّده الغالبية الساحقة من اللبنانيين، وآخر يقوده «حزب الله»، ويريدُ إبقاءَه ساحةَ حربٍ إقليمية – دولية مفتوحة.
في الدعوة إلى الحياد، لطالما ردَّدَ المؤيدون أنَّ لبنان في الأساس كان بلداً محايداً، وقد أكَّدَ في ميثاقه الوطني يوم إعلان استقلاله عن فرنسا في عام 1943، أنَّه بلد خارج المحاور والأحلاف العربية والإقليمية والدولية، وعندما قامت دولة إسرائيل في عام 1948، نأى لبنان بنفسه عن الصراع الكبير الذي احتدم في الشرق الأوسط، وجرت في جزيرة رودس اليونانية بوساطة الأمم المتحدة، اتفاقية هدنة لبنان مع الجانب الإسرائيلي في عام 1949.
ورغم محاولة نأي لبنان عن ميادين الصراع، إلا أنَّ هناك محاولات مستمرة لجرّه إلى سياسة المحاور. ولقد جرت محاولات كثيرة في هذه السياسة، من أجل خرق الهدنة، وجعله ساحة حرب مفتوحة، كما حال الدول المجاورة لإسرائيل، إلا أنَّ اللبنانيين اختلفوا على ذلك، وتوجَّه غالبيتهم نحو إبقاء الوضع على ما هو عليه، في حين انبرت قلةٌ قليلةٌ لتأييد الصراع الفلسطيني المسلح انطلاقاً من الأراضي اللبنانية، فتدخل العرب يومَها لمنع وقوع حرب أهلية، وكان للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، الدور الأبرز في معالجة المشكلة عبر توقيع اتفاق القاهرة، الذي أكَّد أنَّ لبنان ليس دولة مواجهة، وإنَّما دولة مساندة للعرب ثقافياً وإعلامياً وفنياً وفكرياً.
إنَّ لبنان الرسمي لم ينخرط في أي حرب، وعندما اندلعت حرب 1973 اقتصر دعمه لسوريا ومصر على الجانب الإنساني والطبي فقط، وظلَّ ملتزماً باتفاقية الهدنة، ولكنَّ قوى إقليمية كثيرة تدخَّلت في شؤونه في السنوات التالية، عبر منظمة التحرير الفلسطينية وغيرها، وحوَّلته إلى ساحة حرب منذ ستينات القرن الماضي وحتى اليوم، فعانى لبنان من حروب الآخرين على أرضه، ودفع اللبنانيون أثماناً باهظة من أرواحهم وممتلكاتهم.
إنَّ سقوط لبنان في السطوة الإيرانية يهدّد بقاءَه كدولة، فالمأساة اللبنانية مستمرة اليوم، بعد أن حلَّت طهران ومحورها محلَ القوى السابقة في الهيمنة على لبنان، وتحويله إلى رأس حَربة إيرانية، متقدمة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، ورغم رفض اللبنانيين، فإنَّ بلدهم يكاد يكون اليوم الجبهة الوحيدة المفتوحة من بقايا ما كان يعرف بالصراع العربي الإسرائيلي، الذي انتهى باتفاقيات سلام، وصار اسمُه اليوم الصراع الإيراني الإسرائيلي.
إنَّ خضوع لبنان لضغوط طهران، وسقوطه تحت السطوة الإيرانية المسماة «حزب الله»، كلَّفه الكثير على مدى السنوات الماضية والعقود الماضية، لكنَّه اليوم يواجه النتيجة الأسوأ لهذه الهيمنة، إذ انهار البلد اقتصادياً ومالياً، ووقع في عزلة دولية وعربية تامة، حيث صار مصيره على المحك، ولأول مرة في تاريخه، فإنَّ بلد الأرز مهدّدٌ بالزوال فعلياً.
إنَّ الهدنة هي المخرج الوحيد لعودة لبنان إلى حياده التاريخي، وهو اليوم أمام مفترق طريق خطير، فإمَّا أن يتخلص من قيوده، ويعود إلى حضنه العربي، وإلى موقعه في المجتمع الدولي، فتنتعش فيه الحياة والازدهار، ويرجع جوهرةَ الشرق كما كان، أو يبقى بقبضة المحور الإيراني معزولاً منبوذاً من الجميع، وبالتالي ميّتاً سريرياً.
في الوضع الراهن، وفي ظلّ موازين القوى الحالية، لا يمكن للبنان الالتحاق بمسار التطبيع والسلام في المنطقة، ولكنَّه بالتأكيد يستطيع السعي لتحقيق وقف إطلاق النار الدائم مع إسرائيل، على أن تتم معالجة مشكلات الحدود وغيرها بالتفاوض، كما حصل بالفعل قبل أشهر قليلة بالنسبة لمفاوضات الناقورة حول ترسيم الحدود البحرية خصوصاً، التي يشكّل نجاحها فرصة ذهبية للبنان من أجل الاستفادة من ثرواته، وهو بأمس الحاجة إليها.
أما إذا تعذَّر تحقيق وقف إطلاق النار، فإنَّ اتفاقية الهدنة المعترف بها دولياً لا تزال قائمة، وينبغي الرجوع لها والعمل بها، وحشد الدعم من كل مكان من أجل ذلك، فلبنان ليس محشوراً بالخيار ما بين التطبيع أو الحرب، فالهدنة هي المخرج والحل، وهي المقدمة الضرورية لعودة لبنان إلى حياده التاريخي.
د. محمد علي الحسيني
الشرق الأوسط