يمنح انهيار الدينار العراقي الحكومة فرصة لتحصيل المزيد من الأموال من إيرادات النفط بالدولار لتأمين الرواتب المتراكمة حيث تتعامل مع الأزمة بارتياح نظرا لمساعدتها في معالجة مشكلة السيولة، لكن من جهة أخرى يمثل ذلك مصدر أرباح للأحزاب الشيعية التي تسيطر على سوق مضاربة العملة.
يرى محللون أن الحكومة العراقية تغض النظر عن تراجع سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار الأميركي، لأن ذلك يصب في مصلحتها في إدارة أزمة السيولة الحالية.
وتعد الحكومة من بين أكبر الرابحين من انخفاض قيمة العملة المحلية، لأنها تبيع النفط بالدولار، الذي تستخدمه لشراء الدينار العراقي من البنك المركزي، كي تمول موازنات الرواتب والخدمات وغيرها، لذلك كلما انخفضت قيمة الدينار كلما حصلت عليه بسعر أرخص.
ومن جهة أخرى، يشير خبراء إلى أن الرابح الكبير فعلا من تراجع قيمة الدينار العراقي يتمثل في الأحزاب الشيعية الرئيسية، وفي مقدمتها التيار الصدري بزعامة رجل الدين المثير للجدل مقتدى الصدر، من خلال نافذة بيع العملة في البنك المركزي.
ووجدت هذه النافذة أساسا بعد العام 2003 للسيطرة على سعر صرف الدولار في الأسواق العراقية، إذ يضخ البنك المركزي عبرها بشكل يوميا أموالا بالدولار الأميركي لتغطية احتياجات المستوردين من العملة الصعبة، محددا سعرا ثابتا لبيع العملة الأميركية، وهو 1180 دينارا عراقيا لكل دولار.
لكن هذه العملية فتحت باب المضاربة في السوق السوداء، حيث تسيطر بضع مصارف تابعة لأحزاب شيعية متنفذة على نافذة بيع العملة، وتشتري كل ما يعرض تقريبا، ثم تعيد بيعه حسب حاجة السوق، محققة أرباحا طائلة.
وطيلة أعوام كان الفارق بين سعر البنك المركزي وسعر السوق السوداء هو 20 دينارا للدولار الواحد، فالدولار الذي يبيعه البنك المركزي عبر نافذته إلى مصارف الأحزاب الشيعية لقاء 1180 دينارا عراقيا يُعاد بيعه في السوق السوداء بـ1120 دينارا.
وجاءت الأزمة المالية التي ضربت العراق مؤخرا بسبب انخفاض أسعار النفط، لترفع الطلب على الدولار متسببة في انخفاض قيمة الدينار أمامه.
وأول الأسبوع، كان الدولار الأميركي الواحد يساوي 1270 دينارا عراقيا، في تراجع كبير جدا لقيمة العملة المحلية أمام نظيرتها الأميركية.
ويصب هذا التحول في صالح الحكومة أولا لأنها ستحصل على دنانير أكثر مقابل دولاراتها القادمة من بيع النفط، ما يسهم جزئيا في مواجهة أزمة رواتب الموظفين، لكن المستفيد الأكبر يتمثل في الأحزاب الشيعية التي تملك مصارف تسيطر على مزاد العملة، وفي مقدمتها التيار الصدري.
ويملك التيار الصدري وحزب الدعوة وحزب الفضيلة وبعض الميليشيات التابعة لإيران مصارف أهلية، هي في الحقيقة واجهات لاستخراج الدولار الأميركي من البنك المركزي والمضاربة به في السوق.
وبسبب الأزمة المالية الأخيرة، ازدادت العمولة التي تحصل عليها هذه المصارف لتصل إلى 90 دينارا عراقيا لقاء كل دولار تنقله من البنك المركزي إلى السوق السوداء.
ومع معدل البيع الحالي الذي يدور حوله البنك المركزي، وهو نحو 300 مليون دولار يوميا، فإن أرباح الأحزاب الشيعية كل يوم، من نافذة بيع العملة، تبلغ نحو 2.7 مليار دينار عراقي، ما يعادل نحو 2.5 مليون دولار.
ووفقا لمصادر مطلعة، فإن الحكومة لا تنوي التدخل لمنع تداعي سعر صرف العملة المحلية أمام الدولار الأميركي، بسبب الأزمة المالية الخانقة.
وتقول المصادر إن التغاضي يمثل البديل الحكومي لسياسة تعويم سعر الصرف، التي قد تنخفض بموجبها قيمة الدينار العراقي كثيرا.
وبحسب المصادر، فإن بغداد ترى أن وصول سعر الدولار الأميركي الواحد إلى 1500 دينار عراقي قد يكون أمرا ضروريا للميزان التجاري، وتحقيق التوازن بين عوائد النفط وحجم الإنفاق.
لكن تراجع قيمة الدينار العراقي إلى هذا المستوى سيعجل بزيادة نسبة التضخم المرتفعة أساسا في العراق، ويعمق حالة الهشاشة الشديدة التي يمر بها اقتصاد البلاد، وفقا لمؤشرات دولية.
وفي مايو الماضي توقع البنك الدولي أن يسجل العراق العام الجاري أسوأ أداء اقتصادي سنوي له منذ 2013، بسبب تدني أسعار النفط ووباء كورونا، مشيرا إلى أن “الأوضاع القائمة أصلا ما قبل الأزمة، ستحد من قدرة البلاد على إدارة وتخفيف الآثار الاقتصادية والاجتماعية”.
وقال البنك الدولي إن “من المتوقع أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 9.7 في المئة خلال عام 2020 متراجعا عن نسبة النمو الإيجابية البالغة 4.4 في المئة التي حققها عام 2019، مسجلا بذلك أسوأ أداء سنوي منذ عام 2003”.
وكشفت مصادر خاصة عن تراجع احتياطي النقد الأجنبي في البنك المركزي العراقي بنسبة 12.5 في المئة، خلال الربع الأول من سنة 2020، إذ انخفض من 65.75 مليار دولار إلى 57.5 مليار دولار، ما يهدد قدرة البلاد على الاستمرار في تطبيق سياسة ضبط سعر الصرف عبر نافذة بيع العملة.
ولم تعد حتى إيرادات النفط كافية لخلاص الرواتب، فرغم أن العراق حقق زيادة كبيرة في حجم الإنتاج النفطي منذ 2003، إلا أن الزيادة في أعداد الموظفين الحكوميين والأشخاص الذين يعتمدون على الدولة في تأمين معاشاتهم كانت أكبر بنحو عشرة أضعاف أو أكثر، ما قطع الطريق على التنمية في مختلف القطاعات، إذ أن الدولة تحولت إلى مجرد “بائع نفط” يفرق جُلّ العوائد على الأفراد شهريا.
ويعتمد العراق على النفط في تمويل نحو 98 في المئة من موازنة الإنفاق السنوية. وبسبب هبوط أسعار النفط عالميا، خسرت البلاد نحو ثلثي عوائدها الشهرية. ولم تتوقف مآسي العراق عند هذا الحد، إذ أسهم اتفاق “أوبك+” في تعميقها، بعدما ألزمه بالتخلي عن نحو ربع صادراته لمواجهة تخمة المعروض في الأسواق.
ويعاني العراق من حجم ديون مرتفع، إذ يبلغ حجم الدين الخارجي حوالي 25.5 مليار دولار، كما يشهد ارتفاعا في معدلات البطالة، إثر الإجراءات التي اعتمدتها السلطات العراقية للإغلاق الجزئي للأسواق والمراكز التجارية، للحد من تفشي فايروس كورونا.
صحيفة العرب