كمسألة شائكة يدور حولها كثير من الجدل، ربما تكون لغة الأرقام هي الطريقة الأكثر إقناعا في تناول القضية العراقية، منذ الغزو الأميركي للبلاد عام 2003 الذي كان بمثابة زلزال، لا تزال المنطقة تعاني آثاره الارتدادية حتى اليوم.
لغة الأرقام هذه هي مفتاح مهم لفهم ما جرى ويجري في العراق، وهي الأداة التي استخدمها مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مؤسسة “غالوب” (Gallup) الأميركية للأبحاث منقذ داغر في كتابه الجديد (العراق من الاحتلال إلى الاعتلال.. الرأي العام العراقي)، في محاولته لتفكيك علل الواقع العراقي، وكانت محصلتها دراسة توثيقية، عاصر صاحبها تجربة “العراق الجديد” عن قرب، والتي كانت مليئة بالآمال والخيبات على حد سواء.
ويصف داغر كتابه بأنه “رسم أو تصوير بالكلمات والأرقام لمرحلة تاريخية قد تكون الأهم في تاريخ العراق الحديث”، محاولا الإجابة عن سؤالين هما، هل أن ما وثقته العدسات لحظة سقوط النظام السابق كان يمثل شعور كل العراقيين، وهل أن من فرحوا أو غضبوا آنذاك تحقق فرحهم أو غضبهم بعد كل تلك السنين؟!
وجاء الكتاب في 15 فصلا توزعت على 4 أبواب، تناول كل واحد منها شأنا مفصليا في حياة العراقيين، في السياسة والاجتماع والاقتصاد، حرص خلالها المؤلف على تتبع التغيير الحاصل في الرأي العام المحلي تجاه مختلف القضايا الرئيسية التي واجهت العراقيين، وبناء نماذج رقمية تساعد في توقع الحالة المستقبلية للعراق.
مآلات التجربة
سياسيا، حاول المؤلف توظيف الأرقام في شرح رؤية العراقيين للنظام السياسي الذي قام على أنقاض دولة البعث، وحجم الاختلاف في التعاطي مع هذه التجربة، مستعرضا أبرز محطات الصراع والعنف خلال 17 عاما، مرورا باندلاع موجات العنف الطائفية وتأثيرها على علاقة المواطن بالسلطة، وصولا إلى تفجر الغضب الشعبي، وولادة حراك جديد مناهض للطبقة السياسية في أكتوبر/تشرين الأول عام 2019.
ومنذ الأيام الأولى للنظام السياسي الجديد، كانت العلاقة بالدين تفرض نفسها وتلقي بظلالها على علاقة السلطة بالشارع، وقريبا منها الحساسيات الطائفية، التي تحولت إلى وحش هدد كيان الدولة ونسيج المجتمع بالتمزق إبان مرحلة تنظيم الدولة الإسلامية عام 2014، وهو ما أفرد له المؤلف العديد من الصفحات، ناقش فيها استثمار “الإرهاب” للاحتقان المذهبي، والشروخ التي أحدثها في بنية الهوية الوطنية.
أما اجتماعيا، فقد تناول الكتاب كيفية “تآكل رأس المال الاجتماعي العراقي خلال السنوات الـ17 الماضية، وماهية الصراع الاجتماعي الحاصل بين المحافظة والتجديد”، متطرقا لنظريات عالم الاجتماع العراقي علي الوردي عن الشخصية العراقية، وما كان يعتبره ازدواجا فيها، ولكن من منظور الأرقام لا الأفكار فحسب، وتداعيات ذلك على أوضاع المرأة والطفل، في مجتمع أنهكته الحروب والبطالة والأزمات الخانقة.
وكانت خاتمة الكتاب بفصلين عن الوضع الاقتصادي للبلاد، تطرق فيهما إلى أرقام وإحصاءات عن اقتصاد الدولة العراقية، وحجم الفساد الذي ينخر مفاصلها، متسائلا عن مصير الأموال التي دخلت لميزانية الدولة كإيرادات نفطية خلال السنوات الماضية، وطبيعة الاقتصاد العراقي الريعي، الذي يعتمد بشكل أساسي على سلعة تتحكم فيها أسعار أوبك وحسابات السياسة الإقليمية والدولية.
دروس للمستقبل
ويعتقد داغر أن كتابه هذا سيكون “مرجعا لكل الباحثين في الشأن الاجتماعي العراقي من مختلف زواياه”، بل يمكن للقارئ أيضا “أن يجد فيه كثيرا مما يزيد معرفته عن واقع المجتمع العراقي خلال مرحلة الاحتلال، وما أعقبها من تداعيات سياسية واجتماعية واقتصادية”.
اعلان
ولا يبدي المؤلف تفاؤله بتعاطي أصحاب القرار مع ما جاء في دراسته هذه بشكل موضوعي، لكنه يدعوهم للاستفادة من هذا الكتاب، واعتباره “زادا لهم إذا أرادوا أن يعرفوا الأخطاء التي ارتكبوها أو ارتكبها سابقوهم، وما يريده العراقيون فعلا لهم ولأولادهم ولبلدهم”.
وربما أتاح عمل مؤلف الكتاب له أن يكون قريبا بشكل كبير من صانعي القرار المحليين في العراق، وشاهدا على اندلاع مظاهرات أكتوبر/تشرين الأول نهاية العام الماضي، وأحد داعميها عبر حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي.
ويشغل داغر منصب رئيس المجموعة المستقلة للبحوث في العراق، ومدير الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مؤسسة “غالوب” الدولية للأبحاث، ويعمل كذلك كباحث أقدم بمركز الدراسات الإستراتيجية في واشنطن.
ويأتي هذا الكتاب الذي صدر عن دار الذاكرة للنشر والتوزيع، كمحصلة لدراسات استمرت عدة سنين، وشملت استطلاع آراء مليوني عراقي من مختلف المدن والمحافظات، حصل عليها المؤلف بمساعدة العديد من الأشخاص والمنظمات المحلية والدولية، كما يؤكد المؤلف.
ووقّع المؤلف النسخة الأولى من الكتاب في 12 ديسمبر/كانون الأول الجاري، في حفل بنادي العلوية في بغداد.
المصدر : الجزيرة