ها هو الرئيس الأميركي، ترامب، يُقدم على ارتكاب أكثر حماقاته غباءً، ويأبى إلا أن يختتم أيامه القليلة المتبقية في البيت الأبيض بمشهدٍ لا يليق إلا برؤساء العصابات وزعماء المافيا، وأن يلحق بالنظام السياسي الأميركي كله وصمة عار قد يتعذّر محوها في المستقبل القريب. كان ترامب قد رفض الاعتراف بهزيمته في الانتخابات الرئاسية التي انتظمت أخيراً، بدعوى أنها زوّرت، وكلّف فريقه القانوني برفع دعاوى قضائية أمام المحاكم الأميركية، بمستوياتها المختلفة، بما في ذلك المحكمة الفدرالية العليا نفسها، وصل عددها إلى 62 دعوى. لكن هذه الدعاوى رفضت جميعاً، لافتقارها للجدّية، ولعجزها عن تقديم أية أدلة مقنعة عن حدوث تزوير واسع. لم يستسلم ترامب، وراح يمارس ألواناً شتّى من الضغوط على المشرّعين، وعلى حكام الولايات الجمهوريين، لحملهم على تغيير التوجّه التصويتي في المجمع الانتخابي. وحين باءت هذه المحاولة بالفشل، بل وتم فضحها بعد نشر صحيفة واشنطن بوست تسجيلاً صوتياً لمكالمته الهاتفية مع سكرتير ولاية جورجيا، لم يعبأ بهذه الفضيحة المدويّة، وراح يدعو أنصاره إلى الاحتشاد أمام البيت الأبيض في اليوم المخصص لتصديق الكونغرس على النتائج الرئاسية.
هنا بات واضحاً أن ترامب على وشك تجاوز كل الخطوط الحمراء، فما إن اعتلى المنصة وسط حشود هائلة مشحونة بالغضب، حتى راح يصب جام سخطه، ليس فقط على الديمقراطيين الذين ارتكبوا، من وجهة نظره، واقعة التزوير، لكنه راح يوجّه، في الوقت نفسه، كل أنواع السباب إلى المشرّعين الجمهوريين الذين يرفضون الاعتراض على نتائج الانتخابات، بمن فيهم نائبه مايك بنس نفسه، والذي طلب منه ترامب صراحةً ما هو أكثر من مجرد الاعتراض على نتائج الانتخابات، ولكن العمل على قلبها أيضاً، تمهيداً لإعلانه فائزاً بولاية ثانية!! وفي غمرة هذا الحماس، راح يحرّض أتباعه على التوجه نحو مبنى الكابيتول “لدعم المشرّعين الشجعان والتنديد بالجبناء”. ولأنه لم يكن في مقدور أحد السيطرة على حشود غاضبة تتلقى توجيهاتها من رئيس الدولة مباشرة، لم يكن مستغرباً أن تندفع هذه الحشود لاقتحام الكونغرس، وأن تعبث بمحتوياته، وأن تشتبك مع رجال الأمن، ما أدّى إلى سقوط قتلى وجرحى. هنا بدا واضحاً، بما لا يدع مجالاً للشك، أن رئيس الدولة الأميركية يقود بنفسه تمرّداً مسلّحاً!
راح ترامب يحرّض أتباعه على التوجه نحو مبنى الكابيتول “لدعم المشرّعين الشجعان والتنديد بالجبناء”
المثير في الأمر أن ترامب بدا وكأنه يتلذّذ بمتابعة هذا المشهد الفريد في تاريخ الحياة السياسية الأميركية، بل وبدا واضحاً أنه لم يتحرّك لوقف المأساة، إلا بعد أن طلب منه الرئيس المنتخب ذلك. وحين بدأ يتحرّك مطالباً الجماهير بالعودة إلى منازلها، لم ينس أن يوجه التحية إلى أتباعه، وكأنهم أبطالٌ فرغوا للتو من أداء واجب وطني يستحق الإشادة والتقدير! الأكثر إثارةً للاستغراب أن ترامب لم يدرك أنه ارتكب خطأ شنيعاً، يمكن أن يحول دون تحقيق أهدافه، إلا بعد أن بدأ زعماء الحزب الجمهوري في التخلّي عنه الواحد تلو الآخر، وبعد أن قرر الكونغرس استئناف الجلسة، فور السيطرة على الفوضى، والعودة إلى مواصلة قراءة النتائج، والتصديق عليها. حينها وجد ترامب نفسه مضطرّاً للرضوخ والاستسلام، ومن ثم صرح، لأول مرة منذ الانتخابات، بأنه سيقبل تداولاً سلساً للسلطة فور تصديق الكونغرس على نتائج الانتخابات، وهو ما تم.
كانت عواصم العالم كافة تراقب هذا المشهد الغريب وتتابعه باهتمام بالغ، نظراً إلى ما له من تأثيراتٍ واسعة النطاق على الداخل الأميركي، وعلى الخارج سواء بسواء. وفي تقديري أن طهران وتل أبيب كانتا من أكثر عواصم العالم اهتماماً بما جرى، خصوصاً وأنهما تقودان مشروعين إقليمين متناقضين تماماً تجسّدهما علاقة صفرية. لذا من الطبيعي أن يراهن كل منهما على حصانٍ مختلف. فبينما لا تعوّل طهران كثيراً على بايدن، إلا أن من المؤكّد أنها تعول أكثر على رحيل ترامب. أما تل أبيب فتدرك تماماً أن رحيل ترامب سيمثل خسارة صافية لها، ومن ثم يتوقع أن تسعى إلى استثمار وجوده في البيت الأبيض حتى اللحظة الأخيرة. ولأنه بات في حكم المؤكد، خصوصاً بعد اجتياح الكونغرس، أن بايدن سيبدأ حتماً في ممارسة سلطاته اعتباراً من 20 يناير/ كانون الثاني الجاري، فليس من المستبعد مطلقاً أن تعمل إسرائيل، بكل السبل المتاحة أمامها، وبالتنسيق الكامل مع ترامب، على وضع بايدن أمام أمر واقع جديد، قبل دخوله البيت الأبيض، وللحيلولة دون تمكينه من العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران. ولكن هل سيكون ترامب، خصوصاً بعد واقعة الكونغرس، في وضع داخلي يسمح له باتخاذ قرارٍ بتوجيه ضربة لإيران، منفرداً أو بالتنسيق مع نتنياهو، على الرغم من أنه قد يترتب على توجيه هذه الضربة إشعال حربٍ إقليمية واسعة النطاق في المنطقة؟
ليس مستبعدا أن تعمل إسرائيل، بكل السبل المتاحة أمامها، وبالتنسيق الكامل مع ترامب، على وضع بايدن أمام أمر واقع جديد
أصبح وضع ترامب الداخلي، خصوصاً بعد اجتياح الكونغرس، أضعف مما كان عليه قبله، فهناك مؤشّرات كثيرة على أن الحزب الجمهوري بدأ يستشعر خطورته، ويتخلى عنه. بل وليس مستبعداً أن تكون شرائح عديدة من قاعدته الشعبية قد بدأت تستشعر أنه أصبح يشكل بالفعل خطراً على تماسك المجتمع الأميركي، وتتخلى بدورها عنه، وعن مشروعه للترشّح في انتخابات الرئاسة لعام 2024، بل إن قيادات جمهورية مؤثرة بدأت تطرح، علناً، فكرة عزل ترامب، باللجوء إلى تفعيل المادة 25 من الدستور الأميركي. صحيح أن الوقت المتبقي على 20 يناير يبدو قصيراً، إلى درجة تجعل من وضع هذا الاقتراح موضع التنفيذ متعذّراً، إن لم يكن مستحيلاً. ومع ذلك، مجرد إثارته في هذا التوقيت قد يشيع أجواء داخلية، تجعل من الصعب على ترامب أن يفكّر في القيام بعمل عسكري واسع ضد إيران. وتلك كلها متغيراتٌ تصب لصالح إيران. ومع ذلك، من الصعب التكهن بما يدور في عقل ترامب، خصوصاً وأنه عُرف بقابليته لاتخاذ أخطر القرارات فجأة، ومن دون حسابات مدقّقة للعواقب. أما نتنياهو فلا يبدو مستعدّاً على الإطلاق لقبول مجرّد احتمال عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق الخاص ببرنامج إيران النووي الذي يعتبره تهديداً وجودياً لإسرائيل. ولأنه أصبح في موقف سياسي بالغ الصعوبة، ومهدّداً بالمحاكمة ودخول السجن إذا لم يتمكّن من قيادة الحكومة التي ستسفر عنها الانتخابات المقبلة، فقد يقرّر القيام بتوجيه ضربة منفردة وخاطفة لإيران، بشرط حصوله طبعاً على ضوء أخضر من ترامب، وربما على غطاءٍ عربي، يضمن له تعاوناً لوجستياً. وليس هذا الاحتمال مستبعداً.
تبدو إيران صامدة ومتحدّية وقادرة على اتخاذ خطواتٍ محسوبة، لكن مؤثرة
في المقابل، تبدو إيران صامدة ومتحدّية وقادرة على اتخاذ خطواتٍ محسوبة، لكن مؤثرة، فقد فضلت عدم الرد على اغتيال عالمها النووي، محسن فخري زاده. وفي الذكرى السنوية الأولى لاغتيال الجنرال قاسم سليماني، أعلنت عن استئنافها بالفعل عمليات تخصيب اليورانيوم بنسبة 20%، وكذلك عدم السّماح للمُفتّشين الدّوليين التّابعين لوكالة الطاقة الذريّة بزيارة مُنشآتها النوويّة، وبالتالي إلغاء مُهلَة الشّهرين. صحيحٌ أنها أعلنت عن استعدادها للعدول عن هذه القرارات، في حالة عودة الولايات المتحدة إلى التزام كل الأطراف بكل بنود الاتفاق، لكنها تدرك جيداً أن من شأن الإقدام على خطوة مثل هذه أن تضعها في موقف تفاوضي قوي مع الرئيس الجديد، بايدن، حتى ولو كانت خطوةً من شأنها استفزاز إسرائيل إلى أقصى درجة.
أسبوعان ويغادر ترامب البيت الأبيض. وعلى الرغم من أن وضعه الداخلي أصبح هشّاً ومهزوزاً، إلا أن العالم ما زال يحبس أنفاسه، وينتظر بفارغ الصبر دخول بايدن البيت الأبيض. وفي جميع الأحوال، فقد بات الشرق الأوسط مرشّحاً لتغييرات في الحالتين، ولكن في اتجاهين متناقضين، أي سواء تم توجيه ضربة لإيران أو لم يتم.
حسن نافعة
العربي الجديد