الملف الإيراني يمثل محورا مهما من محاور السياسة الخارجية لإدارة الرئيس المنتخب جو بايدن، ويرى المراقبون أن سياسات بايدن الإيرانية يمكن أن تتوزع على ثلاثة محاور فرعية في مقدمتها الملف النووي الإيراني والسعي لإصلاح ما دمرته سياسات الرئيس ترامب في هذا الشأن. أما الملف الثاني فهو محاولة كبح التوسع الإيراني في الشرق الأوسط، وهو ملف يحوي الوضع العراقي، والحرب في سوريا، وأمن دول مجلس التعاون الخليجي، والحرب اليمينة.
أما الملف الثالث فسيكون الصراع الإسرائيلي الإيراني، وهو ملف شائك تتداخل معطياته مع الملفين السابقين بشكل معقد، لكنه الملف الأكثر حساسية، لذلك يحتاج من الممسكين به من فريق جوزيف بايدن إلى قدرة سياسية مميزة في العمل على تقليص التهديد النووي والصاروخي الإيراني الذي تتخوف منه إسرائيل وتسعى لتحجيم وجود إيران المهدد لها في سوريا ولبنان، كما يجب على إدارة بايدن من طرف آخر ضبط اندفاع صقور حكومة نتنياهو اليمينية المتلهفون لتوجيه ضربة مدمرة لإيران، وما قد يجره مثل هذا السلوك من مواجهة عسكرية شاملة في منطقة الشرق الأوسط.
نقاط قوة
لن تكون عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي أمرا سلسا كما قد يبدو من الوهلة الأولى بالاعتماد على التصريحات التي أدلى بها الرئيس المنتخب جو بايدن، أو جيك سوليفان مستشاره للأمن القومي، أذ إن الكثير من الأمور قد تعقدت في غضون السنتين اللتين انسحب فيهما الرئيس ترامب من الاتفاق. واليوم باتت هناك أصوات في واشنطن تطالب الرئيس المنتخب بأن يتم تعديل الاتفاق النووي وأن تضاف له شروطا تحد من القدرات الإيرانية بشكل ملموس.
وفي المقابل راكمت إيران ما تعتبره نقاط قوة طوال فترة تعرضها لضغوط إدارة ترامب لتستعملها في تفاوضها المقبل، ومن بين الملفات التي تصر عليها طهران كشرط للرجوع إلى الاتفاق النووي هو تأكيد حكومة روحاني على ان الولايات المتحدة هي من خرقت الاتفاقات الدولية بانسحاب إدارة ترامب من الاتفاق، وبالتالي عليها العودة لصيغة الاتفاق القديم من دون تعديل، كما طالبت إدارة بايدن بدفع تعويضات عما أصاب إيران من أضرار منذ 2018 حتى الآن جراء إخلال واشنطن بالاتفاق.
وقد رفضت إيران إضافة أية بنود أخرى إلى الاتفاقية القديمة، وصرح وزير خارجيتها محمد جواد ظريف في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي في مؤتمر روما: “لن نعيد التفاوض على اتفاق تفاوضنا عليه” بينما تحدث الرئيس المنتخب بايدن من جانبه عن ضرورة اتباع “طريقة أذكى” في التعامل، وذلك في مقال نشر في ايلول/سبتمبر الماضي، أشار فيه بقوله؛ “نحتاج إلى تغيير المسار بشكل عاجل” معتبراً أن سياسة الرئيس ترامب بالرغم من قسوة العقوبات التي فرضتها على إيران إلا انها انتهت بـ”فشل خطير” وجعلت إيران من وجهة نظره “أقرب” لامتلاك سلاح نووي.
وتجدر الاشارة إلى ان الوقت يبدو ضيقا جدا، إذ ليس هناك سوى خمسة أشهر لإنجاح العودة للاتفاق النووي بين إدارة بايدن وحكومة روحاني، إذ سيتسلم بايدن منصبه رسميا في 20 كانون الثاني/يناير، بينما ستجرى الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقبلة في 18 حزيران/يونيو، وأن كل المؤشرات تشير إلى فوز محتم للمحافظين بمنصب الرئيس بعد ولايتي الرئيس الإصلاحي روحاني.
وصول المحافظين إلى سدة الرئاسة الإيرانية مع سيطرتهم على البرلمان في الانتخابات الأخيرة، يمثل عقبة حقيقية بوجه العودة للاتفاق النووي، لأن المحافظين يعادون الاتفاق النووي الذي تجمدت مفاوضاته لثمان سنوات طوال ولايتي الرئيس محمود أحمدي نجاد، ولم تعد له الحياة إلا بعد فوز الرئيس روحاني. هذه الأمور كلها تشير إلى مدى صعوبة الملف وحتمية الاستعجال في اتخاذ القرارات المناسبة للبت به قبل أن يدخل إلى نفق مظلم على مدى سنوات مقبلة.
“إعادة إيران للصندوق”
بهذا التعبير وصف مستشار الأمن القومي جيك سوليفان سياسة إدارة بايدن المقبلة تجاه إيران، وركز على استعداد إدارة الرئيس بايدن للعودة إلى الاتفاق النووي، وضبط سلوك إيران مرة أخرى ومنع الموقف من التأزم أكثر. ووفقا لصحيفة “وول ستريت جورنال” قال سوليفان مطلع شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، إن الإدارة الآتية تريد إعادة إيران “إلى الصندوق” من خلال الرجوع إلى الاتفاق النووي وإجبار طهران على الامتثال لشروط الاتفاقية الأصلية. وأضاف: “في المقابل، ستكون الولايات المتحدة مستعدة لاحترام شروط اتفاق 2015”.
هذا الأمر مثل خبرا سارا لإدارة روحاني، الذي أبدى ارتياحه للأمر، وصرح ردا على التصريحات الأمريكية بتعهده، خلال اجتماع الحكومة الأربعاء 9 كانون الأول/ديسمبر الماضي، بأن تنفذ طهران التزاماتها في الاتفاق النووي، إذا أعلنت الإدارة الأمريكية الجديدة عودتها للاتفاق. وقال روحاني إنه “إذا قام الرئيس الأمريكي المنتخب بالعودة إلى الاتفاق النووي، فسوف نفي بالتزاماتنا بالاتفاق”. وأضاف أن بلاده “ستلتزم بالاتفاق النووي” لافتًا إلى أن “أي أجهزة طرد مركزي تم وضعها في منشآتنا النووية بالإمكان إزالتها إذا التزمت الأطراف الأخرى بتعهداتها”.
تحجيم توسع إيران في المنطقة
النقطة التي يصر عليها خصوم إيران من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وهم دول مجلس التعاون وإسرائيل، هي تحجيم البرنامج الصاروخي المتطور الذي تمتلكه إيران ووضعه تحت الرقابة الدولية كشرط إضافي للاتفاق النووي، لأن هذه الدول تعتبر صواريخ إيران تهديدا لأمن واستقرار المنطقة. بينما تعتبر إيران من جانبها هذا البرنامج ضمانة لحمايتها من اعتداءات إسرائيلية محتملة قد تطال برامجها الاستراتيجية وبناها التحتية، خصوصا وان لإسرائيل سوابق في عدم احترام القانون الدولي، وذلك عندما ضربت مفاعل تموز النووي العراقي عام 1981.
وكمسار بديل للخروج من هذه الأزمة طرحت حكومة روحاني برنامج حوار إقليمي بدون رعاية القوى الكبرى، وأطلقت على هذه المبادرة اسم “مبادرة هرمز للسلام” وعرفت إعلاميا باسم “HOPE” (الأمل) وقد دعت الحكومة الإيرانية جيرانها لمناقشة مخاوفهم الأمنية الإقليمية، كما أشارت الخارجية إلى امكانية وضع المبادرة تحت رعاية منظمات دولية لضمان التزام الأطراف ببنودها وقد اقترح محمد جواد ظريف مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة كجهة دولية للإشراف على مفاوضات “الأمل” لضمان أمن المنطقة ورعاية نتائج المحادثات.
خصوم إيران لم يقتنعوا بطروحاتها واعتبروها غير واقعية وتنطوي على تسويف من جانبها يضمر نية عدم التخلي عن ترسانتها الصاروخية. وفي مقابلته مع صحيفة “نيويورك تايمز” التي أجراها توماس فريدمان يوم 2 كانون الأول/ديسمبر الماضي، أشار الرئيس بايدن إلى أنه “بمجرّد استعادة الصفقة من الجانبين، يجب أن تكون هناك، في وقت قصير جدّاً، جولة من المفاوضات من أجل السعي إلى إطالة مدّة القيود على إنتاج إيران للمواد الانشطارية، وكذلك لمعالجة أنشطة إيران الإقليمية، من خلال وكلائها في لبنان والعراق وسوريا واليمن”. وأضاف؛ “أنظر، هناك الكثير من الحديث عن الصواريخ الدقيقة ومجموعة من الأشياء الأخرى التي تزعزع استقرار المنطقة” واستدرك “أفضل طريقة لتحقيق بعض الاستقرار في المنطقة، هي عبر التعامل مع البرنامج النووي”. ورأى أنه إذا حصلت إيران على قنبلة نووية، فإن “ذلك سيمارس ضغوطاً هائلة على السعودية وتركيا ومصر وغيرها من دول المنطقة، للحصول على أسلحة نووية بأنفسهم”.
التطبيع والأمن القومي الإيراني
انتاب الدوائر الرسمية في إسرائيل القلق نتيجة خسارة دونالد ترامب الانتخابات الرئاسية، وذلك بسبب الدعم غير المحدود الذي قدمه ترامب لإسرائيل، ودعمه غير المشروط لمواقف إدارة نتنياهو اليمينية، كما ضغطت إدارة ترامب على الدول العربية للقيام بتطبيع علاقتها مع إسرائيل. والنتيجة تشكيل طوق ضاغط على الأمن القومي الإيراني. وقد تلقت إيران عدة ضربات إسرائيلية موجعة تمثلت في هجمات وتفجيرات طالت منشآت إيران النووية، بالإضافة إلى الضربة التي اغتيل بها محسن فخري زاده أبرز علماء إيران النوويين، إلا إن إيران امتصت هذه الضربات ولم ترد حتى الآن بانتظار موافقة الرئيس بايدن على العودة للاتفاق النووي وما سيمثله ذلك من انفراج في الأوضاع الإيرانية، وما قد يعتبر ضربة موجعة لإسرائيل.
كل ذلك يجعل تعاطي إدارة بايدن مع هذا الملف أمرا شائكا ومعقدا، وبالرغم من تأكيداته المتكررة دعمه لأمن إسرائيل، وتعهده بالوقوف بوجه أي تهديد تتعرض له، إلا إن إدارة نتنياهو ما تزال تتذكر المواقف المتشددة لإدارة أوباما، التي كان بايدن فيها نائبا للرئيس، تجاه عدد من الملفات في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، حتى وصفت العلاقات الأمريكية الإسرائيلية حينها بأنها وصلت إلى أدنى مستوى من التعاون في تاريخ إسرائيل.
لكن تأكيدات بايدن على بعض النقاط التي وعد ان تتضمنها جولات المفاوضات اللاحقة للاتفاق النووي مع إيران والتي ستضم تمديد فترة القيود على أنشطة إيران لإنتاج المواد الانشطاريّة التي قد تستخدم لصنع أسلحة نوويّة، إلى أكثر من عشر سنوات، وضبط البرنامج الصاروخي الإيراني، والطلب من إيران كبح أذرعها في المنطقة، كلها اعتبرت رسائل مطمئنة نوعا ما لإسرائيل، ويمكن أن تنطلق منها للعمل مع الرئيس الأمريكي المنتخب في تطبيق سياساته تجاه إيران.
صادق الطائي
القدس العربي