كان الانفجار في ساحة الطيران في بغداد يوم الخميس، 21 يناير/ كانون الثاني، وخلّف عشرات الضحايا والجرحى، وتبنّاه، وفقاً لوكالة أعماق، تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ملفتاً لناحية توقيته وطريقته. وفقاً للرواية العراقية الرسمية (المشكوك فيها) كان تفجيرا انتحاريا مزدوجا في سوق “البالة”، وجاء بعد انقطاع طويل لمثل هذه التفجيرات عن بغداد، بحيث إنّه لم يُسجّل مثله منذ قرابة العامين تقريباً. غير أنّه جاء أيضاً بعد أقل من يومين من تنصيب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة، ما يطرح علامات استفهام كثيرة بشأن هذا الحدث وما يمكن أن يتصل به.
وقد تابعنا، في الأسابيع القليلة الماضية، نشاطاً جديداً وملحوظاً لتنظيم داعش في البادية السورية، حيث ذكرت وسائل إعلام سورية أكثر من مرّة أنّ القوات التابعة للنظام تعرّضت أكثر من مرّة لهجماتٍ قوّية استهدفت قوافل وحافلات للنظام، وأدّت إلى مقتل عشرات من قوّاته، بحسب رواية وسائل إعلام النظام السوري، وتبنّاها أيضاً “داعش”.
وللتذكير، هذا التنظيم الذي تمكّن في عام 2014 من السيطرة على مساحات واسعة من العراق وسورية، وأعلن قيام دولة الخلافة على النطاق الجغرافي الذي سيطر عليه، عاد وانحسر بشكل كبير عن معظم المناطق التي سيطر عليها بفعل عوامل عديدة ربما ليس محل ذكرها الآن. غير أنّه ظلّ محتفظاً بجيوبٍ غير ذات قيمة في مناطق نائية، سواء في الصحراء السورية أو العراقية، ولا ندري لماذا ظلّت هذه الجيوب قائمةً، مع قناعة الجميع أنّ التحالف الدولي أو الإقليمي أو المحلي الذي تشكّل لمواجهة التنظيم كان قادراً على إزالته من تلك الجيوب والقضاء عليه بشكل تام ومبرم، بعدما أقصاه عن تلك المساحات الواسعة، وعن تلك الحواضر التي دُمّرت تحت عنوان تحريرها منه. وبالتالي، ظلّت وسائل الإعلام تتداول اسمه بين الفينة والأخرى، ربما لحاجة الأطراف المتصارعة له في وقت من الأوقات.
الأطراف المعنيّة بالتنافس أو بالصراع في المنطقة، قوى داخلية في الأقطار أو قوى إقليمية أو دولية، ساقت الاتهامات لبعضها بعضا بالاستثمار في “داعش”
وللتذكير أيضاً، تداولت وسائل إعلام كثيرة على مدى الأعوام السابقة معلومات كثيرة عن ضلوع أكثر من طرف محلي أو إقليمي أو دولي في إنتاج “داعش”، وجعْـله فزّاعة أو شمّاعة يتمّ تعليق الأمور عليها، أو تُتخذ ذريعةً لسياساتٍ أو حساباتٍ تتفق أو تنسجم مع مصالح القوى الفاعلة الرئيسية والمؤثرة في المنطقة. وعليه، لم يكن التنظيم سوى أداة بأيدي آخرين. وبغض النظر عن عناصره، أو حتى بعض قياداته، أو حتى الفكرة التي يتحرّك بها، حتى أنّ الأطراف المعنيّة بالتنافس أو بالصراع في المنطقة، قوى داخلية في الأقطار أو قوى إقليمية أو دولية، ساقت الاتهامات لبعضها بعضا بالاستثمار في “داعش”، وفي بعض الأحيان الوقوف خلفه.
اليوم وبعد هذه العودة إلى هذا الأسلوب من العمل، وإلى هذا النشاط للتنظيم، يبرز السؤال القديم الجديد: هل عاد الاستثمار في “داعش”؟ هل هناك قوى محلّية أو إقليمية أو دولية تريد العودة إلى هذا الأسلوب، في ظلّ المعطيات التي برزت على المسرح الإقليمي والدولي بفعل المستجدات السياسية وغير السياسية؟ يبرز هذا السؤال، لأنّ إنساناً واحداً عاقلاً في هذه المنطقة لم يعد يصدّق أنّ “داعش” خارج دائرة الاستغلال والاستثمار!
خلال الأسابيع الأخيرة من ولاية الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، حبست المنطقة أنفاسها خوفاً من ضربةٍ أو حدث كان يمكن أن ينزلق بها إلى مواجهاتٍ مفتوحة وحرب طاحنة، وكان الجميع يخشاها ولا يريدها. وفي الفترة الرئاسية الجديدة، في ظلّ إدارة جو بايدن، يدرك الجميع أنّ الوسائل ستتغير، وإن ظلّ الهدف واحداً.
يجري الحديث في لبنان عن “خلايا إرهابية” نائمة، وعن نيات لضرب الاستقرار المهتز بفعل الأزمات المتناسلة
خلال الأسابيع الأخيرة التي سبقت تولّي بايدن الرئاسة، وخلال حوار مع أحد الأصدقاء العراقيين من السياسيين المخضرمين، أبدى خوفه وقلقه من عودة العراق إلى ساحةٍ لتصفية الحسابات بين الأطراف المعنيّة والمؤثرة في المشهد العراقي، وأن يتمّ العبث بكل شيء، وصولاً إلى إعادة خلط الأوراق من ضمن معركة المكاسب والمصالح والمشاريع. .. هل يأتي هذا التفجير المزدوج الأخير في سياق تلك الحسابات، وعبر الاستثمار في ذاك التنظيم الذي ربما يكون “هو” آخر من يعلم؟ وهل يمكن أن تشهد ساحاتٌ أخرى مشابهة أعمالاً من هذا القبيل والشبه؟ في لبنان جرى الحديث، أخيرا، عن “خلايا إرهابية” نائمة، وعن نيات لضرب الاستقرار المهتز بفعل الأزمات المتناسلة، فهل يكون لبنان ساحة أخرى، أو جديدة، للاستثمار بهذا التنظيم؟
يبدو أنّ عنوان المرحلة المقبلة في المنطقة سيكون الاستثمار في مثل هذه التنظيمات والأعمال التي تُنسب لها، والتفاوض على أمور أخرى، تستكمل المشاريع التي أُريد لها طمس هوية المنطقة من ضمن سياسة إعادة تشكيلها.
وائل نجم
العربي الجديد