لم ينتصر الفلسطينيون على الرئيس الأميركي السابق، ترامب، فالنصر يكون مصحوباً بتحقيق إنجازات ملموسة، تقرب من يحرزونه من تحقيق أهدافهم الوطنية، وهذا لم يحصل. ولكن يمكن القول إن الفلسطينيين، شعباً وقيادة، صمدوا أمام الهجمة الشرسة والشاملة التي شنتها إدارة ترامب عليهم لتصفية مشروعهم الوطني، وتثبيت ما كانت تعرف بصفقة القرن، ولم يقدّموا أي تنازل يذكر لتلك الإدارة الهوجاء، ولم يحظ ترامب منهم حتى بلقاء واحد، ولو من أجل العلاقات العامة بعدما تمت مقاطعته.
سجّل ما شئت من تحفظاتٍ على القيادة الفلسطينية وأدائها، من انقسام وافتقار إلى برنامج سياسي وضعف وفساد، وغير هذا كله، ولكن الحقيقة التي علينا أن نحترمها هي أنه في يوم 20 نوفمبر/ تشرين الثاني هزم طاغية البيت الأبيض على يد شعبه، في حين أن الفلسطينيين، الضعفاء بقوتهم العسكرية والأقوياء بعدالة قضيتهم، بقوا صامدين، لم ينكسروا أمام وحشية الهجوم المنهجي الذي استهدفهم بلقمة عيشهم وبحقوق لاجئيهم وبمساعدات مستشفياتهم، لإخضاعهم وتركيعهم أمام صفقات استعمارية خططت لها قيادات يمينية فاشية دينية، من أمثال جاريد كوشنر وديفيد فريدمان وغيرهما.
الشعب الفلسطيني المنقسم على برنامجه السياسي، وعلى قيادته السياسية، بقي موحّداً صلباً في رفض المساومة على كرامته الوطنية
نعم، فقد مارس ترامب كل أشكال الترغيب والترهيب، وأعانه في ذلك القريب والبعيد، تارة يعرض عشرات المليارات، وتارة أخرى يوقف كل أشكال الدعم المالي، سواء على مدارس اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) أو مستشفيات القدس أو بإعطاء الضوء الأخضر للقرصنة الإسرائيلية للضرائب المستحقة للفلسطينيين، حتى لم تعد القيادة الفلسطينية قادرةً على دفع رواتب موظفيها. التهديد بالتجويع وبالعقاب سنوات مقبلة لم يتوقف طوال الوقت. الوساطات بكل أشكالها ومصادرها المتنوعة للتحدّث مع الطاغية لم تتوقف طوال فترة حكمه، للتفاوض على أساس خطته المشؤومة، لكنه لم يحصد سوى الرفض والخيبة، خارجاً من البيت الأبيض منبوذاً مذموماً محسوراً.
لم يكن الصمود الفلسطيني أمام الطاغية بدون ثمن، فقد نُقلت السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وتم الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، كما خسر الفلسطينيون جزءاً من عمقهم الاستراتيجي العربي، بالإضافة إلى أثمان أخرى تم دفعها بأشكال مختلفة. ولكن المهم أن الشعب الفلسطيني المنقسم على برنامجه السياسي، وعلى قيادته السياسية، بقي موحّداً صلباً في رفض المساومة على كرامته الوطنية وحقوقه المشروعة وعدالة قضيته. لقد ذهب ترامب وصفقته المشؤومة إلى مزابل التاريخ بدون عودة إلى البيت الأبيض، منهياً مستقبله السياسي، خصوصاً بعد فشل انقلابه الغوغائي على مبنى الكونغرس، رمز الديمقراطية الأميركية وبيتها. ولكن الجرح الفلسطيني لم يندمل، وبالتأكيد لم يتحقق الحق الفلسطيني في الحرية والكرامة الإنسانية. وعليه، أمام الفلسطينيين مشوار طويل ما زال عليهم السير فيه.
وحتى يتمكّنوا من المضي، فلا بدّ لهم من تقييم كل مرحلة، بما لها وما عليها. نعم، لا بد لهم من تسمية الأمور بمسمياتها، وذلك لبناء سردية فلسطينية عادلة ومنصفة وغير سوداوية، تعترف بالإخفاقات، وهي كثيرة، ولكنها أيضاً تتعرف على الإنجازات أو الصمود في وجه العاصفة عندما تحدث، كما هو الحال في صمود الشعب الفلسطيني أمام وحشية الهجوم الترامبي.
على الفلسطينيين ألا يخجلوا من المجاهرة بالاعتراف بصمودهم، وبعدم التنكر لحقهم في الصمود وعدم السماح أيضاً لوضعهم المأساوي الراهن بأن ينسيهم ذلك
صحيحٌ أن الواقع مرير، ولكن على الفلسطينيين ألا يخلطوا الصالح بالطالح، وعليهم أن يعتزوا ويفتخروا بصمودهم وعدم انكسارهم أمام وحشية اليمين الغوغائي الذي لم يرحم حتى مؤسسته التشريعية وحاضنة ديمقراطيته، وذلك على الرغم مما تجرّعوه من معاناة وشيطنة على كل المستويات. على الفلسطينيين ألا يخجلوا من المجاهرة بالاعتراف بصمودهم، وبعدم التنكر لحقهم في الصمود وعدم السماح أيضاً لوضعهم المأساوي الراهن بأن ينسيهم ذلك. بل على العكس، رؤيتهم صمودهم أحد العوامل التي ستساعدهم على التغلب على تحدّيات المرحلة المقبلة.
يدخل في عملية المكاشفة بشأن المرحلة المنصرمة أيضاً التأكيد على أن الصمود في وجه هجمة ترامب الوحشية لا يبرّر بأي حال الإخفاقات المتعدّدة في أداء القيادة الفلسطينية، الرسمية منها والحزبية، ليس فقط في ملفات الانقسام والفساد واختطاف الشرعيات القيادية، ولكن على الدرجة نفسها من الأهمية افتقادها برنامجاً وطنياً فاعلاً ومقاوماً ضمن الإمكانات والأدوات التي تتناسب مع طبيعة المرحلة. مقاطعة طاغية البيت الأبيض مهمة وضرورية، ولكنها تدخل في باب المقاومة السلبية، في حين أنه كان في وسع القيادات الفلسطينية تنشيط برنامج مقاوم على الساحة الدولية، إن لم يحقق الإنجازات، فبالتأكيد كان سيُحدث حالة إرباك لأركان الهجمة اليمينية الترامبية. لم يكن الفلسطينيون سيخسرون أكثر من الثمن الذي دفعوه في تلك المرحلة، سيما أنهم كانوا مستهدفين بلقمة عيشهم، فالاكتفاء بالصمود السلبي، كما حدث، أضاع فرصة من تحقيق إنجازات على الساحة الدولية من دون ثمن إضافي غير الذي دفعوه.
الدعوة إلى الانتخابات التشريعية والرئاسية التي أقرّتها القيادة، وعلى الرغم مما تعتريها من شبهاتٍ ونياتٍ مبيتة، قد تشكّل فرصة لفتح صفحة جديدة مع الشعب الفلسطيني
كنت كتبت في “العربي الجديد” في 10 يونيو/ حزيران 2019، والشعب الفلسطيني في خضم المواجهة مع الطاغية وصفقته المشؤومة، عن ضرورة عدم تغيير القيادة الفلسطينية ضمن تلك الظروف. أما الآن، وقد رحل الطاغية وقبرت صفقته، فقد آن الأوان لفسح المجال أمام الشعب الفلسطيني لاختيار ممثليه بشفافية ومسؤولية عالية. صمود القيادة الفلسطينية مع شعبها في وجه الطاغية مشكورة عليه، لكنه لا يغفر لها انقسامها وشرذمتها واختطافها الشرعية القيادية واختصارها بنفسها. كان في مقدورها التركيز على ترتيب البيت الداخلي، وإطلاق برنامج عمل معاكس، مستغلةً بذلك فقدان الطاغية مصداقيته على الساحة الدولية، ولكنها اختارت ألا تحرّك ساكناً على هذا الصعيد. الدعوة إلى الانتخابات التشريعية والرئاسية التي أقرّتها القيادة، وعلى الرغم مما تعتريها من شبهاتٍ ونياتٍ مبيتة، قد تشكّل فرصة لفتح صفحة جديدة مع الشعب الفلسطيني الذي عانى بما فيه الكفاية، بحيث يترك له المجال لاختيار ممثليه بحرية وشفافية وطي صفحةٍ مؤلمةٍ بكل تفاصيلها… آن للقيادة الفلسطينية أن تستريح وتريح، وتفسح المجال أمام دماء جديدة تتدبّر أمرها بنفسها، ولتعتبر من مغادرة الطاغية، بجبروته وغطرسته، المشهد السياسي الأميركي غير مأسوف عليه، فلا يعقل أن يبقى الشعب الفلسطيني ومشروعه الوطني رهينة قيادات رسمية وحزبية شاخت على كل المستويات، واحتكرت تمثيل الملف الفلسطيني بكل تفاصيله، عقوداً.
إبراهيم فريحات
العربي الجديد