تسببت تداولات الأفراد التي وصفها البعض بـ “المجنونة” في هزّ عرش أسواق الأسهم الأميركية، وسط تدفق ملايين المتداولين الأفراد إلى السوق المالية الأكبر في العالم، ما أنشأ قوة جديدة أربكت كبار محترفي التداول وصناديق التحوط.
وقال محللون في الأسواق العالمية إن “ما حدث في أسواق الأسهم الأميركية أخيراً يُعتبر تحولاً صادماً في قواعد التلاعب حيث يكشف ذلك عن عودة الصراع بين المستثمرين الصغار وأباطرة المال، بعد نحو 10 سنوات من حركة “احتلوا وول ستريت” التي كانت تحتج إزاء واقع أن الصغار لا يستطيعون المشاركة في البورصة، والآن وجد الصغار سبيلاً لتجاوز النظام من الداخل”.
ويستهدف مستثمرون أفراداً هواة بعض صناديق التحوط، وينسقون هجماتهم على منصة “ريديت”، ويركزون على الأسهم التي تنوي المحافظ الكبرى بيعها بعد عمليات بيع على المكشوف، وهي تقوم على “استعارة” أسهم من الوسطاء، وبيعها عندما تنخفض الأسعار، لتحقيق أرباح سريعة.
في الوقت ذاته أشار محللون إلى أن هذا الصراع قد يمهد لأزمة مالية جديدة شبيهة بما حدث في عام 2008.
تحول صعب
وتُعتبَر هذه الخسائر تحولاً “صعباً” لعمالقة صناديق التحوط الذين استفادوا العام الماضي من تداعيات أزمة كورونا، لكن الجائحة ساعدت على دفع الآلاف، إن لم يكن الملايين، من تجار التجزئة إلى سوق الأسهم الأميركية، ما خلق قوةً جديدة يبدو أن المحترفين عاجزون حتى الآن عن مكافحتها، بحسب وكالة “بلومبيرغ”.
ويرى محللون أن هذه القوة تتكوّن من مجموعة من المتداولين الذين استخدموا صفحات ترشيحات الأسهم المعروفة باسم “رهانات وول ستريت” على “ريديت” لتنسيق هجماتهم، والتي بدا أنها ركزت على الأسهم التي تقوم صناديق التحوط ببيعها.
وعلى أثر ذلك، حلق سهم “جيم ستوب” إلى ارتفاعات قياسية أخيراً، وتجاوزت قيمته 400 دولار صباح الخميس الماضي، بعدما كانت قد زادت إلى أكثر من 2000 في المئة منذ بداية العام. وحقق سهم “جيم ستوب” الأربعاء الماضي، قفزةً قياسية بنسبة 134 في المئة، ليتراجع بنسبة 62 في المئة صباح الخميس، ما أدى إلى تجميد التداول مرات عدة.
استهداف المستثمرين
وأورد المحللون أن قصة سهم متاجر ألعاب الفيديو “جيم ستوب” بدأت عندما قامت مجموعة من صغار المستثمرين على منتدى “وول ستريت بتس” التابع لموقع “رديت” الإلكتروني (الذي يضم قرابة ستة ملايين مستخدم) بالإعلان عن نيتها استهداف المستثمرين الذين راهنوا على انهيار سعر سهم “جيم ستوب” من خلال العمليات المعروفة بـ “البيع المكشوف”.
وتهدف عملية البيع على المكشوف أو (short selling) إلى تحقيق الأرباح من وراء الانخفاض المتوقع في سعر سلعة أو أداة مالية أو ورقة مالية (سهم)، عن طريق اقتراضها وبيعها، أو عن طريق بيع عقد ثابت أو عقد آجل يُتعهد فيه بتسليمها في تاريخ لاحق بالسعر الحالي.
وتقوم هذه العمليات الشائعة بالنسبة إلى صناديق الاستثمار الضخمة، على اقتراض أسهم ثم بيعها تحسباً لانخفاض أسعارها بغية إعادة شرائها لاحقاً بقيمة أقل وتحقيق ربح كبير.
ويبدو أن مجموعة من صغار المستثمرين المتحمسين للرهانات المالية المحفوفة بالمخاطر، عمدت إلى مواجهة الأسماء الكبيرة في المجال من خلال إتمام عمليات شراء أسهم “جيم ستوب” على نطاق واسع بهدف رفع السعر، وفق ما ذكره محللون.
أهداف سابقة للبيع على المكشوف
وهذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك، ومن أهداف تلك المجموعة هو استهداف عملية البيع على المكشوف بشكل عام وهي الممارسة التي كانت جزئياً السبب في الأزمة المالية العالمية في عام 2008 عندما راهن مستثمرون على انهيار السوق العقارية، وهي القصة التي سردها الفيلم الشهير (The Big Short) وعادةً ما يشير أعضاء هذه الصفحة لهذه النوعية من المستثمرين بـ “مصاصي الدماء”.
وحوّل مستخدمو موقع “رديت” اهتمامهم صوب شركات أخرى، من بينها سلسلة دور السينما “آي بي سي” بأكثر من 300 في المئة، وبدرجة أقل، صوب شركة “بلاك بيري” المصنعة لبرمجيات المؤسسات بنسبة 33 في المئة.
مضاربات قوية
وقال مستشار المخاطر لدى بنك “سوسييتيه جنرال” في لوكسمبورغ، نادر حداد، إن “بورصة نيويورك شهدت مضاربات قوية حول أسهم عدة من قبل أشخاص متمردين في السوق المالية، ما أثار حفيظة المؤسسات الرقابية في الولايات المتحدة وخارجها حيث ارتفع سعر سهم “جيم ستوب” إلى مستويات قياسية”.
وأوضح حداد أن “التداول على هذا السهم هو بمثابة تدخل وتلاعب في السوق وهو بدوره يخالف قواعد اللعبة الاقتصادية”، مشيراً إلى أن “ما حدث على هذا السهم تسبب بخسارة العديد من شركات التحوط الكبرى لأنها لم تتوقع ارتفاعه وهذه نتيجة عمليات البيع الآجل التي حصلت”.
وأشار حداد إلى أن “المؤسسات الرقابية في الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أعربت عن قلقها من هذه التداولات لكونها طريقة جديدة تشكّل خطورة على المتداولين وشركات الوساطة المالية”.
وقال إن “هذا النوع من التداول على الأسهم لا يعكس حقيقة المردود الاقتصادي للشركات إنما هو مضاربة في السوق المالية هدفها الوحيد هو تحقيق أرباح”، مضيفاً أن “الخطر يكمن في أن هذا النوع من التداول يستطيع أن يتسبب في إجبار المتداولين على دفع فوارق إذا ذهب السهم بعكس المتوقع”.
ولفت حداد إلى أن “هذا الأمر يستوجب تدخل المشرع الأميركي للتدقيق في عمليات البيع والشراء التي حصلت هذا الأسبوع وربما سيتم الحد من التداول على هذه الأسهم لاستقرار الأسواق ولعدم تكرار مثل هذه المضاربات التي تلحق خطر بالمتعاملين بالسوق وتجعل من المؤسسات المالية في حالة ضبابية، بالتالي لا يمكنها التحكم في المخاطر”.
وأكد أن ارتفاع القيمة السوقية لشركة لأكثر من عشرة أضعاف من دون تحقيق أي مردود اقتصادي إضافي يشكل خطراً على السوق المالية وعلى الاقتصاد، كونها عملية مضاربة على الأسهم”، مشيراً إلى أن “ذلك يوجب على الجهات الرقابية أن تحد من هذه العمليات التي تشكل خطراً على الأسواق”.
تغيير قواعد اللعبة
من جانبه، قال محلل الأسواق المالية، العضو الاستشاري لدى مركز أبحاث “نمازون” الاقتصادي، بيان نبيل، أن “هذه الحادثة ستضع قواعد جديدة للعبة وستصبح الأموال الغبية نداً للأموال الذكية”، مؤكداً أنها لن تستمر “ولكن من دون شك ستغيّر بعض قواعد اللعبة في ما يخص الإجراءات وتدابير المخاطر لدى الصناديق الاستثمارية ورفع مستويات التحفيز والمتابعة لدى مديري الصناديق عند أخذ قرارات استثمارية”.
وأفاد نبيل بأن “مؤشرات أسواق المال تشهد تقلبات سعرية عالية في الفترة الأخيرة متأثرة بمجموعة من العوامل، منها قرارات الحزم التحفيزية المقبلة، إضافة إلى ما تمت طباعته من أموال سابقاً تم ضخها في الأسواق أدت إلى تضخيم قيم الأسهم بشكل متسارع وغير صحي”.
صراع اللقاحات
وحول العوامل الأخرى المؤثرة في الأسواق، أشار نبيل إلى “صراع اللقاحات مقابل عودة تفشي الفيروس وبشكل متحور وارتفاع أعداد الاصابات حول العالم، وأيضاً ترقب قرارات إدارة بايدن الجديدة في ما يخص قانون الضرائب الداخلي، والعلاقات التجارية الخارجية، بخاصة مع الصين، وبعض الأمور المتعلقة بتركة دونالد ترمب”.
وبالنسبة إإلى اتجاه الأسواق العالمية المتوقعة، ذكر نبيل أن “مؤشر “داو جونز” تراجع خلال آخر جلستين بنسبة 3.5 في المئة بما يعادل 1000 نقطة تقريباً وينطبق الأمر كذلك على بقية المؤشرات الرئيسة، ما يرفع درجة التخوف لدى المتداولين من احتمال بدء موجة هبوط جديدة وهو ما يظهر على مؤشر الخوف VIX حيث ارتفع بشكل مضطرب في آخر جلستين”.
وتابع “حتى هذه اللحظة ومن ناحية فنية لديناميكية الحركة السعرية لا يمكن القول إن الأسواق تحولت لسوق دببة (السوق التي تنخفض فيها أسعار الأسهم والسندات والأوراق المالية بنسبة 20 في المئة على مدار شهرين) حيث أنها لم تكسر اتجاهها الصاعد فنياً، لكن هناك تحركات عند مستويات سعرية تاريخية لا يمكن إغفالها إضافة إلى أن الكثير من المؤشرات الفنية والأساسية على حد سواء وبعض التحليلات لنتائج العوامل سابقة الذكر تشير إلى قرب حدوث عملية تصحيح سعري عميقة على أقل وبحسب تسارع الأحداث”.
وأشار إلى أنه “وفق مبدأ ترابط الأسواق والذي زاد بشكل كبير خلال السنوات الماضية نتيجة لكثير من العوامل، كما شهدنا سابقاً عند بدء جائحة كورونا وغيرها من الأزمات، فمن المستبعد تماماً ألا تتأثر الأسواق العالمية وحتى الإقليمية بأي عملية تراجع حاد في الأسواق الأميركية، لكن قد تتغير نسبة الضرر ومدته من سوق لأخرى بحسب المقومات الاقتصادية لكل بلد، بخاصة في الأسواق الناشئة”.
غالب درويش
اندبندت عربي