خلّفت مشاركة الولايات المتحدة في حروب الشرق الأوسط تداعيات وخيمة بالنسبة إلى الجنود المشاركين في ساحات القتال، حيث ألقت التجربة بظلالها سلبا على صحتهم النفسية وحياتهم الاجتماعية ومواردهم المالية.
وتروي الباحثة أندريا مازارينو في تقرير نشرته مؤسسة “غلوبال أجنس” معاناة الجنود الأميركيين العائدين من جبهات القتال والصراعات الكبرى وتتعرض بالتدقيق إلى حجم الضرر النفسي الكبير الذي لحق بهم.
وحدّثها أحد الجنود القدامى في كتيبة الرماة الذي خدم في كل من أفغانستان والعراق بين عامي 2003 و2011 قائلا “خرجت من مشاة البحرية وفي غضون سنوات قليلة، انتحر 15 من رفاقي. عندما خرجوا وعادوا إلى بلادهم، لم يكن بإمكانهم الاندماج. لم يكن لديهم مكان يعملون به، ولم يكن لديهم أحد من أقربائهم بجوارهم. ظهرت عليهم أعراض اضطرابات ما بعد الصدمة التي جعلتهم يتفاعلون بطرق لم يفعلها الأميركيون الآخرون”.
ومن الممكن أن يُدهش ما قاله هذا الجندي العديد من الأميركيين الذين عاشوا أحداث وحروب ما بعد 11 سبتمبر في أفغانستان والعراق وغيرهما من الدول من خلال رؤيتهم لعروض الغارات الجوية النارية والجيوش والقوات والدبابات تتحرك عبر الصحراء، ولكن توقفوا بعد ذلك عن إعارة انتباههم لمثل هذه الأحداث.
وبصفتها مؤسّسة مشاركة في مشروع “تكاليف الحرب” في جامعة براون الأميركية، بالإضافة إلى تجاربها العسكرية حيث كتبت وعاينت عن قرب ويلات عقدين من الحرب في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، لم تتفاجأ مازارينو مما آل إليه حال الجنود العائدين.
وعلى العكس تماما، فقد أكدوا فقط ما كانت تدركه بالفعل، وهو أن معاناة الحرب لا تحدث في لحظات القتال وسط الرصاص والقنابل والعبوات الناسفة التي كانت تجري في ساحات القتال. ولكن المعاناة الحقيقة، سواء بالنسبة إلى الجنود أو المدنيين، تحدث بشكل غير مباشر من خلال الطريقة التي تدمر بها الحرب عقول الجنود وتتلف أجسادهم، وما تفعله بالأنظمة الحساسة التي تدعم عمل المجتمع مثل المستشفيات والطرق والمدارس، والأهم من ذلك كله العائلات والمجتمعات التي يجب أن تتكبد وتعيش وسط الكثير من الخسائر.
آثار مضاعفة
تتمثل إحدى المهام الرئيسية لمشروع تكاليف الحرب في توثيق عدد القتلى في صفوف القوات الأميركية النظامية من حروبها التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر وخاصة في أفغانستان والعراق.
وبالمقارنة مع 400 ألف حالة وفاة أميركية (ولا يزال العدد آخذا في الارتفاع) بسبب فايروس كورونا في أقل من عام، فإن ما يقرب من 7 آلاف حالة وفاة عسكرية أميركية من تلك الحروب على مدى عقدين تقريبا يبدو عددا ضئيلا بالفعل.
وتلاحظ مازارينو أن 7 آلاف هو رقم صغير مقارنة ليس فقط بوفيات كورونا، ولكن أيضا بما يزيد عن 335 ألف حالة وفاة من المدنيين في مناطق الحرب التي حاربت بها القوات الأميركية بها منذ العام 2001. ومع ذلك، فإن 7 آلاف ليس بالعدد الهيّن عندما تفكر في ما تعنيه خسارة حياة جندي واحد في القتال بالنسبة إلى عائلته ومجتمعه.
وبالموازاة مع ذلك، يتم تجاهل التركيز على أعداد القتلى من الأميركيين من خلال قضيتين رئيسيتين: أولا، أن لكل قتال في العراق وأفغانستان آثارا مضاعفة في داخل الأميركي.
وبصفتها زوجة ضابط غواصة أكمل أربع جولات بحرية وكان عليه التعامل مع مذابح الحروب بكل تفاصيلها، فقد كانت مازارينو شاهدة بشكل شخصي على العديد من المجتمعات التي تحزن على القتلى العسكريين وتعاني من جروح وآلام حتى بعد انقضاء سنوات على دفن جثث أحبائها.
ويشعر الآباء والأزواج والأبناء والأشقاء وأصدقاء الجنود الذين قتلوا أثناء الحروب بالذنب ويعيشون مراحل كبيرة من الاكتئاب والقلق، وأحيانا يدمنون الكحول أو المخدرات. فيما تكافح العائلات، التي لديها أطفال صغار، لدفع الإيجار أو شراء الطعام أو تغطية أقساط الرعاية الصحية والتكاليف المشتركة بعد فقدان الشخص الذي يكون في الغالب هو المصدر الوحيد لدخل الأسرة.وفاقم انتشار الوباء هذه المعاناة، حيث فقدت المجتمعات العمال والمتطوعين والجيران الذين كان بإمكانهم تحمل الضغط الشديد وحل المشكلات والعمل عبر الخطوط الطبقية والحزبية والعرقية لتحقيق المزيد من التضامن ودعم أسر الجنود.
ثانيا، كما تشير شهادة جندي البحرية السابق الذي تحدثت إليه مازارينو، يعاني الكثير من الناس ويموتون بعد فترة طويلة من انتهاء المعارك التي خاضوها.
ولا يزال علماء الاجتماع يعرفون القليل جدا عن حجم الوفيات بعد الحروب والمعارك. ومع ذلك، فقد قدّرت دراسة أجريت عام 2008 من قبل مكتب الأمم المتحدة في جنيف، أن الوفيات التي حدثت بعد الحروب تصل على الأقل إلى أربعة أضعاف الوفيات التي حدثت أثناءها.
وفي “مشروع تكاليف الحرب”، وقعت دراسة آثار الحرب على صحة الإنسان والوفيات، لاسيما في مناطق الحروب التي شاركت فيها القوات الأميركية.
وهناك، يموت الناس أثناء الولادة بسبب تدمير المستشفيات أو العيادات. يموتون بسبب عدم وجود الأطباء أو المعدات اللازمة لاكتشاف مرض السرطان مبكرا بما فيه الكفاية أو حتى الأمراض الشائعة الأخرى. يموتون لأن الطرق تعرضت للقصف أو لأن السفر عليها أصبح غير آمن. يموتون من سوء التغذية لأن المزارع والمصانع والبنية التحتية لنقل الغذاء تحولت جميعها إلى ركام. يموتون لأن الأشياء الوحيدة المتاحة وبأسعار معقولة لمنعهم من الإحساس بالألم العاطفي والجسدي قد تكون المواد الأفيونية أو الكحول أو غيرها من المواد الخطرة. يموتون لأن العاملين في مجال الرعاية الصحية الذين ربما عالجوهم، أو قاموا بتحصينهم ضد الأمراض التي عفا عليها الزمن مثل شلل الأطفال، تعرضوا للترهيب من أداء عملهم.
وبالطبع، كما يتضح من ارتفاع معدلات الانتحار، فإنهم يقتلون أنفسهم بأيديهم.
ومن الصعب للغاية إحصاء مثل هذه الوفيات، ولكن بصفتها معالجة نفسية تعمل مع عائلات الجيش الأميركي والأشخاص الذين هاجروا من العشرات من الدول المنكوبة في الكثير من الأحيان حول العالم، تلفت مازارينو إلى أن الآليات التي تخلقها الحروب لعمليات الانتحار تبدو واضحة جدا: وهي أنك تجد أنه في لحظة ما بعد الحرب، لا يمكنك النوم، لا يمكنك قضاء يومك بشكل مناسب دون أن ترى حطاما على الطريق السريع، أو تتلقى نظرة غريبة من شخص ما، أو تسمع ضوضاء عالية غير متوقعة في الخارج تثير الرعب.
وإذا لم تقدك هرمونات التوتر التي تسري في جسدك والتي تتحول إلى أمراض مزمنة مؤلمة مثل الألم العضلي الليفي أو الأمراض العقلية مثل الاكتئاب والقلق إلى الانتحار، فقد تشجعك الأساليب التي تستخدمها للتعامل مع حياتك الجديدة مثل الإفراط في تناول الطعام أو القيادة المتهورة أو تعاطي المخدرات. وإذا كنت ابنا أو زوجا لشخص عاش ويلات الحروب المتكررة في القرن الحادي والعشرين في أميركا، فهناك فرصة كبيرة لأن تتعرض للعنف الجسدي من شخص يفتقر إلى السيطرة على نفسه.
وخلال دراسة التكاليف غير المباشرة للحرب من خلال عقد مقابلات مع أشخاص شهدوا الحرب أو عاشوها، كما فعلت الحكومة الأميركية من خلال مجموعتها المحدودة من الإحصائيات، اتضح على سبيل المثال، أنه في العام 2018 مات حوالي 18 عسكريا أميركيا في الخدمة الفعلية أو من قدامى المحاربين بالانتحار.
وتعكس الوفيات الناتجة عن العنف وحوادث السيارات وتعاطي المخدرات والضغط المزمن التي يمكن إرجاعها إلى حروب ما بعد 11 سبتمبر، المشاكل التي ابتليت بها مجتمعات عسكرية، والتي لم تكن موجودة بهذا الحجم قبل أن تقرر واشنطن الرد على هجمات 11 سبتمبر بغزو أفغانستان ثم العراق.
ضعف الإحاطة والدعم
جنود يعانون من ساحات القتال
جنود يعانون من ساحات القتال
لم تتضح سوى معلومات قليلة حول نطاق وطبيعة مثل هذه المشاكل التي عانى منها الجنود العائدون من ساحات القتل فيما لم تكن الإحاطة النفسية كافية.
لكن يمكن التأكيد على أن المؤسسات الوحيدة التي تعمل على إعادة تأهيل القوات العائدة من مناطق القتال الأميركية هي “العائلات” الرسمية وغير الرسمية لأفراد الجيش، وكذلك المجتمعات التي يعيشون فيها والعائلات الممتدة والجيران والأصدقاء. ولكن عندما يتعلق الأمر بهياكل إعادة التأهيل الرسمية، فإنه لم يكن هناك ما يكفي من مستشفيات شؤون المحاربين القدامى والعيادات الخارجية، ومقدمي الخدمات الذين يقبلون التأمين العسكري، والمنظمات غير الربحية الصغيرة التي تقدم أشكال الدعم الترفيهية وغيرها من أشكال الدعم وما شابه.
ومن المعروف في المجتمع الأميركي أن عمليات الإحالة وأوقات الانتظار لمثل هذه المساعدة غالبا ما تكون طويلة ومرهقة. وإذا كنت من المحاربين القدامى الذين يطلبون المساعدة، فمن المحتمل أنك ستجد نفسك مضطرا إلى تغيير الأطباء أكثر من مرة في السنة، بدلا من أن تحصل على استمرارية الرعاية التي قد تحتاجها لعلاج الصدمات الجسدية والعاطفية. وفي الوقت نفسه، فإن رعاية الأطفال والأنواع الأخرى من خدمات الرعاية الداعمة التي قد تساعد في السيطرة على الإهمال وسوء المعاملة قليلة ولا تكفي.
وبصفتها زوجة من الطبقة المتوسطة لضابط في عائلة تتمتع بمزايا الدخل المزدوج، تكشف مازارينو صعوبات في تأمين العلاج في ظل نقص الدعم الحكومي.
وتقول “اضطررنا أنا وزوجي إلى سحب مدخراتنا للتقاعد بقيمة سنوات من حسابنا المصرفي لتوفير علاج ليما قبل الولادة لن يموله التأمين العسكري، وهي مشكلة كان من الممكن تجنبها لو تم تمويل وتدريب ممثلي خدمة الزبائن في برنامج الصحة والطب التابع لوزارة الدفاع ‘تراي كير”.
كما اضطرت زوجة ضابط آخر ابنه مصاب بالتوحد إلى كتابة الخطابات على مدى أشهر تتوسل إليهم لتلقي الرعاية لهذا الصبي وطفلها الصغير الآخر حتى تتمكن من التقدم للعمل بوظيفة والسفر لحضور المواعيد الطبية الخاصة بها خلال فترة سفر زوجها في الحروب الأميركية.
الكثير من الجنود يخشون الحصول على علاجات للصحة العقلية لأنه عندما يحدث ذلك في الجيش، فإنه سيتم تخفيض رتبة مهنية للجندي
ولم تتوقف المعاناة عند هذا الحد، فالجنود العسكريون في الخدمة وجنود آخرون يشربون الكحول بانتظام ويستخدمون المخدرات بكثافة كل ليلة لتهدئة مخاوفهم وأعراض إجهاد ما بعد الصدمة بشكل كافٍ حتى يتمكنوا من حضور وجبات العشاء العائلية، ومشاهدة الأخبار أو للنوم حتى لساعات قليلة.
ويخشى الكثير منهم السعي للحصول على علاجات للصحة العقلية لأنه عندما يحدث ذلك في الجيش، فإنه سيتم تخفيض رتبة مهنية للجندي.
وتلاحظ مازارينو أنه “بالرغم من أننا نعيش في عصر يعتمد فيه الكثير منا على الأمن الكفء والجدير بالثقة لحمايتنا من التهديدات المزدوجة لوباء قاتل وإرهاب محلي، إلا أن أفراد قواتنا الأمنية يعيشون حياة صعبة بالفعل”.
وتضيف “في حين أنه يجب علينا أن نلتفت إلى حصيلة الخسائر في الأرواح، التي كانت بسبب عدم شعور هؤلاء الجنود بأنهم مرحب بهم في وطنهم، الذي لم يقدم ما يكفي لحوالي مليوني جندي قاتلوا في حروبنا، إلا أننا لم نعر الانتباه الكافي لهم”.
ومع وضع مثل هذه التكاليف البشرية للحرب في الاعتبار، وقع سنّ مشروع قانون وحيد من الحزبين الذي أقره الكونغرس بسبب الفيتو الرئاسي في سنوات حكم دونالد ترامب، وهو مشروع قانون “الدفاع” الممول بشكل ضخم مؤخرا بقيمة 740 مليار دولار. وشمل ذلك الإنفاق على إنتاج المزيد من الأسلحة فضلا عن زيادة الرواتب، من بين تدابير أخرى كان من المفترض أن تعزز القوة القتالية لقواتنا العاملة بعد أكثر من 19 عاما من الحروب غير الناجحة في الخارج.
ومع ذلك، تبدي مازارينو استغرابا لأنه بعد دعم هذا القانون الهائل للمجمع الصناعي العسكري، إلا أن توسيع الدعم الاجتماعي للعائلات العسكرية كان ضئيلا.
وكانت هناك زيادة متواضعة في المساعدة لأفراد أسر الجنود ذوي الإعاقة، بالإضافة إلى فرض قيود على زيادة الاشتراكات لأولئك الذين يستخدمون التأمين العسكري في مجتمعاتهم. ومع ذلك، تقول الباحثة “نفتقر هنا إلى التغييرات الهيكلية الرئيسية، مثل توفير الإمكانية للجنود الذين يسعون للحصول على رعاية صحية نفسية، وبرامج تدريب وظيفية أكثر قوة لأولئك الذين يرغبون في الانتقال إلى القوى العاملة المدنية، وتوسيع نطاق مسؤوليات برنامج ‘تراي كير’ عندما يتعلق الأمر بتوفير معلومات دقيقة عن الخدمات المتاحة في المجتمع، وتوسيع دعم رعاية أطفال الأسر العسكرية”.
وأكثر ما يلفت الانتباه حول وجود هذا القانون هو كيفية استمرار قادة كلا الحزبين السياسيين في تمويل الإنفاق الحربي قبل كل شيء، لاسيما بالنظر إلى أن الحروب الأميركية الخارجية في هذا القرن لم تحقق سوى القليل من القيمة الملموسة بخلاف إحداث فوضى قد لا يتم التخلص منها أبدا.
وتخلص مازارينو إلى نتيجة مفادها أن “اهتمامنا نحن الأميركيين يبدو منصبا على الحرب في الأراضي البعيدة أكثر من الاهتمام بحماية شعبنا”، وتختم متسائلة “ألم يحن الوقت للبدء في نسج شبكة أمان حقيقية، مما يسمح للأميركيين الضعفاء الذين حاربوا في تلك الحروب بالحصول على دعم أفضل، بحيث لا يرتكبون أعمال عنف لا معنى لها ضد الآخرين، ولا يرتكبونها في حق أنفسهم؟”.
صحيفة العرب