مزج الرئيس الأميركي جو بايدن بين القديم والجديد في أول خطاب رئيسي له حول السياسة الخارجية عنوانه العريض أن أميركا عادت، لكن ملامح سياسته المستقبلية شكلت تناقضاً صارخاً مع سياسة إدارة دونالد ترمب السابقة، بدءاً من زيادة أعداد اللاجئين إلى بلاده، وتجميد سحب القوات الأميركية من ألمانيا، وتغيير سياسة واشنطن تجاه اليمن مع استمرار دعم السعودية، وانتهاء بمواجهة انتهاكات حقوق الإنسان والاستبداد والتعصب في كل من روسيا والصين من دون استبعاد التعاون معهما، كما شكلت التحالفات الدولية أساساً استراتيجياً لمواجهة التحديات المستقبلية والدفاع عن القيم الديمقراطية وسيادة القانون والصحافة الحرة عقب تجربة مريرة جعلت الولايات المتحدة أكثر عزماً وتصميماً على تحقيقها بعد تهديد الديمقراطية الأميركية خلال حوادث الهجوم على مبنى الكابيتول، فما التحديات التي ستواجهها إدارة بايدن في ذاك الطريق؟ وإلى أي مدى يمكن لهذا التحول أن ينجح في إعادة الدور الرائد للولايات المتحدة حول العالم ويحقق في الوقت ذاته مكاسب للداخل الأميركي؟
على الرغم من أن خطاب بايدن شمل الكثير من المواقف والاتجاهات، إلا أنه في المحصلة النهائية احتوى على مزيج من الأفكار الشعبوية النابعة من الجناح التقدمي القوي داخل الحزب الديمقراطي، بالإضافة إلى نية بايدن المعلنة لجعل بقية العالم ينسى السنوات الأربع المضطربة لرئاسة ترمب عبر تعضيد فكرته بأن الولايات المتحدة عادت مرة أخرى كقائدة عالمية وقوة دافعة للديمقراطية وحقوق الإنسان حول العالم.
لغة وإشارات مختلفة
وكان لاختيار بايدن مقر وزارة الخارجية الأميركية في قلب العاصمة واشنطن لطرح مواقفه وأفكاره لسياسة إدارته في أول خطاب له خارج البيت الأبيض، مغزى ساطع، وهو أن الدبلوماسية ستكون لها الأولوية كقوة مؤثرة خارجية، وهو ما قاله بايدن بوضوح للدبلوماسيين الأميركيين الذين أُحبطت معنوياتهم خلال سنوات حكم ترمب، بأنه سوف يدعمهم. ومع ذلك حاول التلويح بالقوة العسكرية أيضاً حين أشار إلى أنه طالب وزير الخارجية أنتوني بلينكن ووزير الدفاع لويد أوستن بالتواصل معاً، والتنسيق المستمر لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الأميركية، وهو ما استجاب له وزير الدفاع سريعاً بإعلانه مراجعة وضع القوات الأميركية حول العالم حتى تتوافق مع مصالح أميركا الوطنية وفي الأماكن المناسبة لدعم العمل الدبلوماسي.
كما كشفت الطريقة التي استخدمها بايدن خلال حديثه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لغة مختلفة تماماً عن سلفه ترمب، حين أوضح أن أيام تقلّب الولايات المتحدة في مواجهة تدخلات روسيا في الانتخابات الأميركية والهجمات الإلكترونية وتسميم المواطنين الروس قد ولّت، فضلاً عن مطالبته بإطلاق سراح المعارض الروسي أليكسي نافالني فوراً ومن دون شروط، وهي لغة قاسية لم يستخدمها ترمب قط خلال أعوام حكمه الأربعة.
وبينما استخدم بايدن لغة تصعيدية أيضاً حيال الصين التي اعتبرها أخطر المنافسين للولايات المتحدة، وتعهّد بمواجهة انتهاكاتها الاقتصادية وإجراءاتها العدوانية وصدّ هجماتها على حقوق الإنسان والملكية الفكرية، إلا أنه استخدم نهجاً مماثلاً حين أعرب عن استعداده للعمل مع بكين، عندما يكون ذلك من مصلحة أميركا.
بشكل عام، اعتُبر الخطاب طموحاً إلى حدّ كبير، من حيث تفاصيل سياساته الرئيسة تجاه خصومه وأعدائه مثل الصين وروسيا، لكنه لم يذكر الخطوات التي قد يتخذها لتنفيذ هذه السياسة وما طبيعة النهج المتعدد الأطراف للضغط على بكين، إذ لم يتحدث بايدن بعد مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، ولم توضح إدارته حتى الآن تفاصيل محددة بشأن المحادثات التجارية مع الصين والتي تم تعليقها العام الماضي من دون التوصل إلى الصفقة الكبرى التي وعد بها ترمب، ولا بشأن كيفية ردّ الولايات المتحدة على انتهاكات حقوق الإنسان الصينية أو كيف ستواجه واشنطن ما تصفه بالعدوان العسكري في بحر الصين الجنوبي.
كما لم يتحدث بايدن عن سياساته تجاه كوريا الشمالية التي قال مستشاره للأمن القومي جاك سوليفان إنها لا تزال قيد المراجعة، في وقت لم تتضح الرؤية حيال إيران في هذا الخطاب أو عبر كبار مسؤولي الإدارة الجديدة، في وقت يجدون أنفسهم أمام مفترق طرق خلال أسابيع أو أشهر قليلة، حيث يتعين على الرئيس بايدن أن يقرر ما إذا كان أو كيف سينضم مجدداً إلى الاتفاق النووي الذي وقعته الولايات المتحدة العام 2015 قبل أن ينسحب منه ترمب.
كيفية إصلاح الضرر
وفي حين أن بايدن أعلن رغبته في الوقوف جنباً إلى جنب مع حلفاء الولايات المتحدة وشركائها الرئيسيين مرة أخرى، إلا أن ما لم يتحدث عنه هو كيف سيصلح الضرر في العلاقات مع أوروبا، إذ لم تعرب الإدارة الأميركية حتى الآن عن رغبتها في العودة إلى المفاوضات بشأن شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي التي ألغاها ترمب، وفشلت في جهودها لوقف اتفاق الاستثمار بين الاتحاد الأوروبي والصين الذي أُعلن في نهاية العام الماضي.
وبينما أعلن الرئيس بايدن أنه تواصل مع حلفاء الولايات المتحدة مثل كندا والمكسيك والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا وحلف شمال الأطلسي لبدء تشكيل التعاون من أجل بناء عضلات تحالف ديمقراطي، والتي انهارت بسبب الإهمال على مدى السنوات القليلة الماضية، إلا أن الأمر سيخضع للاختبار خلال الأشهر والسنوات المقبلة من حيث قوة هذه العضلات وكيفية تعاطي الدول المختلفة معها خصوصاً أن هناك الكثير من الدول التي تتحفظ وتعترض على بعض التوجهات مثل مسألة دعم حقوق المثليين التي تتعارض مع القيم الدينية والتقاليد لدى الكثير من البلدان حول العالم.
ارتباط الداخل بالخارج
وكان أهم عنصر جديد في خطاب بايدن هو رسالته الموجهة إلى الداخل الأميركي من خلال تركيزه على الطبقة الوسطى العاملة في الولايات المتحدة، فقد اعتبر أنه لم يعد هناك خط فاصل بين السياسة الخارجية والداخلية لأن كل إجراء تتخذه إدارته يأخذ في الاعتبار الأسر العاملة الأميركية، في إشارة واضحة إلى ملاحظات جاك سوليفان مستشار الأمن القومي، الذي انتقد منذ فترة طويلة السياسة الخارجية للحزب الديمقراطي سابقاً وسياسة الرئيس الأسبق باراك أوباما في التضحية بوظائف الطبقة الوسطى، وسبل عيشها من خلال صفقات تجارية غير عادلة تمنح العمال القليل من الاهتمام.
وتشير لغة سوليفان في البيت الأبيض قبيل خطاب بايدن بساعات قليلة، إلى أي مدى أصبحت الأفكار التقدمية راسخة في سياسة الحزب الديمقراطي إذ قال إن أولوية الإدارة الأميركية لا تتمثل في تسهيل وصول مؤسسة “غولدمان ساكس” المالية العملاقة إلى الصين.
رهان التعددية
لكن بايدن اعتبر التعددية أكثر إلحاحاً اليوم أكثر من أي وقت مضى لمواجهة التحديات العالمية من أزمة وباء كورونا إلى أزمة المناخ والانتشار النووي، وهي تحديات لن تحلها إلا الدول، وهو ما يفسر أن بادين أمضى أول أسبوعين له في البيت الأبيض في استعادة الاتفاقات والعلاقات المتعددة الأطراف التي تجاهلها ترمب بشكل أساس مثل إعادة الانضمام إلى اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية وتمديد معاهدة ستارت الجديدة للحدّ من الأسلحة مع روسيا.
مخاوف وتحديات
ومع ذلك لا تزال هناك بعض المخاوف لدى شركاء الولايات المتحدة في آسيا، فعلى الرغم من أن الحلفاء في آسيا شعروا بالارتياح بعد فوز بايدن بالانتخابات، لكن تجمعهم تخوفات من عودة إدارة بايدن إلى سياسات أوباما المتساهلة نفسها مع الصين ما يضرّ بمصالحهم.
كما تتزايد مخاوف أخرى من أن يمنح جون كيري مستشار بايدن الجديد بشأن تغير المناخ، امتيازات لبكين في التعاون بشأن تغير المناخ، بما قد يقوّض الجهود الحيوية التي يبذلها مجلس الأمن القومي ووزارتا الخارجية والدفاع لإعادة بناء التحالفات والشراكات لمنافسة أفضل مع الصين، كما تخشى بعض الدول أن تؤدي التعبئة الاقتصادية الوطنية في الولايات المتحدة للتصدي لوباء كورونا وإعادة تشييد البنية التحتية إلى موجة جديدة من الحمائية وسياسات “اشتر أميركا” التي تهدد بإفشال قدرة الإدارة على استعادة نفوذها الاقتصادي في منطقة تهيمن عليها الآن الاتفاقيات التجارية التي تستبعد الولايات المتحدة، وعلاوة على ذلك، فإن تعهد بايدن بعقد قمة للديمقراطيات قد يعزل دولاً لا غنى عنها استراتيجياً للتحالفات الغربية التي يحرص بايدن على إعادة بنائها وقد يدفعها إلى التقارب أكثر مع موسكو وبكين.
احتواء موسكو وبكين
ومع بدء انتقاد بايدن روسيا والصين علانية، لا تبدو علامات الدهشة على الوجوه لأن ذلك كان متوقعاً، وتلك لا تعدو كونها مهمة سهلة، بينما تتمثل الأصعب في تطوير استراتيجية جديدة وشاملة تجاه روسيا والصين تحقق التوازن الصحيح بين احتواء موسكو وبكين وإشراكهما في مجالات محددة ذات اهتمام مشترك، لكن تحقيق ذلك يتطلب من إدارة بايدن أن تتخلص من الأساطير والمفاهيم الخاطئة التي أعاقت تحليل الولايات المتحدة لدور وحجم موسكو لسنوات، واستبدالها بتقييم دقيق لنوع التهديد الذي تشكله روسيا بوتين وكيف يمكن للولايات المتحدة مواجهته بفعالية.
ويدعو بعض الباحثين في واشنطن إلى ضرورة إعادة النظر في طريقة التفكير الأميركي بشأن روسيا الذي يرونه متخماً بالمفاهيم الخاطئة، ويفترض العديد من المحللين بصورة خاطئة أن روسيا قوة متراجعة، صحيح أن الرئيس الروسي بوتين لا يتمتع بالقوة نفسها التي كان يتمتع بها أسلافه السوفيات في السبعينيات أو الرئيس الصيني شي جين بينغ اليوم، لكن روسيا أيضاً ليست الدولة الضعيفة والمتداعية التي كانت عليها في التسعينيات، فهي الآن واحدة من أقوى الدول في العالم كونها تتمتع بقوة عسكرية وإلكترونية واقتصادية أكثر مما يظنه معظم الأميركيين، ولهذا على الولايات المتحدة أن تكرّس طاقاتها وقدراتها في سبيل احتوائها.
وبالنسبة إلى الصين، فإن الأمر يبدو أكثر صعوبة، بالنظر إلى الطموحات الصينية العالمية، وعلى وجه الخصوص في جنوب شرقي آسيا حيث توسّع من قدراتها العسكرية بشكل يهدد مصالح الولايات المتحدة، كما أن قدراتها الاقتصادية المتنامية ووتيرة تعاونها المتسارعة مع معظم دول العالم، سوف تتطلب من الولايات المتحدة جهداً أكبر من أجل احتوائها والحدّ من طموحاتها العسكرية والاستراتيجية خلال السنوات القليلة المقبلة.
طارق الشامي
اندبندت عربي