مضى الآن أكثر من شهر على الحركة الاحتجاجية على تعيين «مليح بولو» لرئاسة جامعة بوغازيتشي. ففي كل يوم يقوم الكادر التعليمي والطلاب بوقفة احتجاجية معلنين رفضهم لهذا التعيين، ومطالبين بأن يتحدد رئيس الجامعة عن طريق الانتخابات.
الواقع أن الدستور والقوانين المتصلة بشؤون الجامعات تمنح رئيس الجمهورية صلاحية تعيين من يراه مناسباً لرئاسة أي جامعة من الجامعات التركية. وربما لو تم التعيين بعد استشارة الكادر التعليمي والإداري واختيار اسم من الأسماء المقترحة من قبلهم، لما ووجه هذا القرار بالرفض.
وفي السابق كان يتم انتخاب الرئيس بأكثرية الأصوات، ويصادق رئيس الجمهورية على المرشح الفائز. تغير هذا في الانتخابات السابقة التي لم تعترف بها السلطة السياسية، وألغي التقليد الانتخابي منذ ذلك الوقت. ما حدث، هذه المرة، هو أن الرئيس المعين قد جاء من خارج هذه الجامعة، ولا يملك مؤهلات استثنائية، حسب معارضي تعيينه، إلا انتماءه لحزب العدالة والتنمية الحاكم. أما المطالبة باختيار الرئيس أو عمداء الكليات عن طريق الانتخابات فهو مطلب قديم يتجدد في كل مناسبة ولا يلقى آذاناً صاغية من السلطة.
اللافت في الأمر أن الرئيس المعين «بولو» تمسك بمنصبه على رغم رفض كل من الطلاب والأساتذة له، ولم يبادر إلى تقديم استقالته حفظاً لكرامته، بصرف النظر عن موقف السلطة التي قامت بتعيينه. أكثر من ذلك، فقد رفض اثنان من أساتذة الجامعة موقعي معاوني الرئيس اللذين قدمهما لهما، فبقي بلا معاونين حتى الآن. وكأن إصراره على التمسك بمنصبه لم يكن كافياً لإفهام رافضيه أن الموضوع سياسي وليس إدارياً، جاءت ردود الفعل على الحركة الاحتجاجية من أقطاب السلطة والإعلام الموالي في منتهى الحدة، فوصفوا المحتجين بالإرهابيين وبالإساءة إلى الرموز الدينية وبأنهم يريدون تحويل الأمر إلى «إنتفاضة غزي» ثانية، بالإحالة إلى الحركة الاحتجاجية الواسعة في حزيران 2013.
وكان الهجوم الأعنف ضد الحركة من رئيس الحركة القومية دولت بهجلي الذي دعا إلى إنهاء «هذه الفضيحة» بأي شكل. أما زعيم المافيا المقرب منه علاء الدين جاكجي فقد وجه رسالة إلى رئيس الجامعة «بولو» حذره فيها من تقديم استقالته. ولم يتوقف الأمر عند ردود الفعل «السلمية» بل انتهى الأمر إلى دخول قوات الشرطة إلى حرم الجامعة ومدرجاتها، وتم اعتقال عشرات الطلاب والطالبات، أخلي سبيل أكثرهم بعد أيام. أحزاب المعارضة والمثقفون المستقلون أعلنوا تضامنهم مع طلاب الجامعة ونددوا بدخول الشرطة وتوقيف الطلاب كما هو متوقع. كما فرقت الشرطة مظاهرات تضامنية مع طلاب الجامعة في كل من إسطنبول وأنقرة وإزمير.
في السابق كان يتم انتخاب الرئيس بأكثرية الأصوات، ويصادق رئيس الجمهورية على المرشح الفائز. تغير هذا في الانتخابات السابقة التي لم تعترف بها السلطة السياسية، وألغي التقليد الانتخابي منذ ذلك الوقت
بعد هذا السرد الموجز لأحداث عاصفة شغلت الرأي العام طوال شهر كانون الثاني، وما زالت إلى اليوم، يأتي السؤال عن السبب وراء كل ما حدث: لماذا؟
لماذا قام رئيس الجمهورية بهذا التعيين؟ أتراه لم يتوقع هذا الرفض الجماعي من الطلاب والأساتذة، أم أنه كان يتوقع ذلك وأراد إثارة احتجاجات من السهل تطويقها؟ تنقسم التحليلات في الصحف التركية غير الموالية في اختيار أحد الجوابين. لكن ما يجمع عليه معارضو القرار هو أنه لم يكن ثمرة قرار كيفي بلا أي خلفيات، بل يشكل جزءاً من استراتيجية عامة في ميدان التعليم قائمة على استتباع المؤسسات التعليمية للحزب الحاكم. أما جامعة بوغازيتشي بالذات فهو يعتبر في نظر البيئة الموالية كـ»قلعة» للخصوم ينبغي «فتحها» على غرار «فتح آياصوفيا».
تعود أصول هذه الجامعة المرموقة التي يتم التدريس فيها باللغة الإنكليزية لطلاب نخبة ممن حصلوا على أعلى العلامات في امتحانات القبول الجامعي على مستوى البلاد، إلى «معهد روبرت» الخاص الذي أسسه أمريكيان هما سايروس هاملين وكريستوفر روبرت، في العام 1863، وكانت مقصداً لأولاد وبنات النخبة البورجوازية في مدينة إسطنبول. ثم تم نقل ملكية المعهد إلى الحكومة التركية وتحولت إلى جامعة في العام 1971. وتشغل مباني الجامعة مساحة واسعة على منطقة مرتفعة مطلة على خليج البوسفور، تحيط بها الغابات، في منطقة «ببك» في إسطنبول.
في أكثر من مناسبة، تحدث أردوغان عن فشل حزب العدالة والتنمية في تحقيق هيمنة ثقافية موازية للهيمنة السياسية طوال العقدين الماضيين. ويعتبر معارضوه أن السلطة تسعى إلى تحقيق هذه الهيمنة عن طريق القرارات الفوقية بسبب افتقاد الحزب الحاكم لأصحاب مؤهلات رفيعة في الميدان الثقافي. ويأتي قرار تعيين بولو، من وجهة نظرهم، في هذا الإطار، وذلك بعد سلسلة من قرارات مشابهة في جامعات أخرى كما في التعليم ما قبل الجامعي. وثمة تحليل يقول إن إثارة الاحتجاجات كانت هدفاً مرغوباً من قبل السلطة لأنها تعزز حالة الاستقطاب الحاد التي يحتاجها الحزب الحاكم للحفاظ على شعبيته المتدهورة باطراد.
ويندرج هذا الحدث في إطار أوسع هو السعي الدائم للسلطة للهيمنة على مؤسسات الدولة، من ذلك مثلاً المحكمة الدستورية التي تعتبر أعلى مرجع قضائي في الدولة التركية. فقد تم استكمال هيئتها، الشهر الماضي بقاضٍ جديد كسر التوازن الذي كان قائماً فيها لمصلحة السلطة. وإلى جانب قراراتها المهمة بشأن إعادة النظر في قرارات قضائية مثيرة للجدل بخصوص معارضين أو صحافيين غير مرضي عنهم، من المحتمل أن تلعب هذه المحكمة دوراً كبيراً في مصير السلطة في الفترة القادمة.
بكر صدقي
القدس العربي