تحمل الأدلة مفتوحة المصدر دلالات قوية على أن «عصائب أهل الحق» هي التي نفذت الهجوم في أربيل وعمّمته، مع احتمال أن تكون قد تلقت المساعدة من تنظيمات أخرى. ينبغي على الولايات المتحدة والشركاء الآخرين في التحالف بذل المزيد من الجهود لربط “تنظيمات الواجهة” التي تنشر أخبار الهجمات عبر الإنترنت بالفصائل الكبيرة أمثال «كتائب حزب الله» و«عصائب أهل الحق» و«حركة حزب الله النجباء» و«كتائب سيد الشهداء»، وذلك من خلال الأدلة العدلية.
كان الهجوم الصاروخي الذي استهدف مطار أربيل الدولي في 15 شباط/فبراير هو الثاني من نوعه على المدينة، والهجوم الصاروخي الكبير الرابع على منشآت التحالف في العراق منذ أيلول/سبتمبر 2020. وفي أعقاب هذه الهجمات وغيرها، سعت الفروع الدعائية للميليشيات المدعومة من إيران إلى المجاهرة بنجاحاتها ضد التحالف والتكتم عن منفّذها. ينبغي على الولايات المتحدة والشركاء الآخرين في التحالف بذل المزيد من الجهود لربط “تنظيمات الواجهة” التي تنشر أخبار الهجمات عبر الإنترنت بالفصائل الكبيرة أمثال «كتائب حزب الله» و«عصائب أهل الحق» و«حركة حزب الله النجباء» و«كتائب سيد الشهداء»، وذلك من خلال الأدلة العدلية. وحتى مع استخدام الوسائل غير السرية، من الممكن استنباط أدلة قوية لإسناد المسؤولية من خلال القيام بتحليلات متأنية عبر الإنترنت لتركيبة كل تنظيم ولغته وتفاعلاته مع التنظيمات الأخرى.
إسناد المسؤولية عن هجوم أربيل باستخدام الأدلة المتوفرة عبر الإنترنت
تحمل الأدلة مفتوحة المصدر، التي تتوفر بكثرة بشأن هجوم أربيل، دلالات قوية على أن «عصائب أهل الحق» هي التي نفذت الهجوم وعمّمته، مع احتمال أن تكون قد تلقت المساعدة من تنظيمات أخرى. فقد حاولت تنظيمات الواجهة والحسابات مجهولة الهوية على وسائل الإعلام تعكير عملية الإسناد وإبطاء عملية صنع القرار لدى خصومها وبث قدر كاف من الشك لجعل أمر الانتقام الحاسم غير مستساغ سياسياً. ولكن بشكل عام، حتى التحليل مفتوح المصدر وحده يؤدي إلى “رجحان الأدلة” (وهو المعيار المدني للأدلة في الولايات المتحدة) أو إلى “توازن الاحتمالات” (وهو المعيار الموازي له في المملكة المتحدة) أن «عصائب أهل الحق» هي التي نفذت الهجوم.
قبل استعراض هذه الأدلة، لا بد من تحديد “الشخصيات الدرامية” في القضية، لأن علاقات الترابط بين مجموعات الواجهة و«عصائب أهل الحق» تعتبر دليلاً قيماً في حد ذاتها. ومن السمات البارزة لهجوم أربيل هي الدور البارز الذي لعبته ثلاثة أطراف هي “صابرين نيوز” و«أصحاب الكهف» و«سرايا أولياء الدم» (الجماعة الوحيدة التي تبنت الهجوم رسمياً):
• “صابرين”: هي قناة إعلامية ميليشياوية كبيرة تملك 80 ألف مشترك على تطبيق “تيليجرام”، بالإضافة إلى حسابات على “فيسبوك” و”تويتر” و”يوتيوب”. ولطالما أظهرت “صابرين” انسجاماً عميقاً مع «عصائب أهل الحق» وزعيمها قيس الخزعلي، حيث أشارت في أيامها الأولى إلى طاعة الخزعلي بالعبارة الرمزية “لبّينا دعوتك”، وعمدت منذ ذلك الحين إلى ذكره بشكل خاص أكثر من أي زعيم ميليشيا آخر – وهو نمط غير اعتيادي لقناة ميليشياوية عراقية. وقد تجسَّد هذا الارتباط الوثيق في تشرين الثاني/نوفمبر 2020 حين انحازت “صابرين” إلى جانب «عصائب أهل الحق» في نزاع علني نشب بسبب العنف التطوعي في بغداد، مما دفع «كتائب حزب الله» إلى النأي بنفسها عن القناة. وبعد شهر من ذلك التاريخ، قادت “صابرين” حملة المطالبة بالإفراج عن أحد عناصر «عصائب أهل الحق» من السجن، حيث نشرت عبارة “نحن «عصائب أهل الحق»”.
• «أصحاب الكهف»: ظهرت الروابط بين جماعة الواجهة البارزة هذه و«عصائب أهل الحق» حين اختلفت الميليشيات على حكمة الهجوم الصاروخي الذي استهدف السفارة الأمريكية في بغداد في 17 تشرين الثاني/نوفمبر 2020. ففي حين دعمت «أصحاب الكهف» و«عصائب أهل الحق» الهجوم، إلّا أن المسؤولين في «كتائب حزب الله» والقنوات الإعلامية التابعة للتنظيم انتقدوه لانتهاكه اتفاق وقف إطلاق النار الذي كان من المفترض أن يستمر إلى حين انتهاء ولاية ترامب. كما ذهبت جماعة «أصحاب الكهف» إلى أبعد من الميليشيات الأخرى في تبعيتها للخزعلي وسعيها لإطلاق سراح سجين تابع لـ «عصائب أهل الحق»، في الوقت الذي بقيت فيه الهيئات التابعة لـ «كتائب حزب الله» (على غرار “الوحدة 10000” والقنوات التابعة لها) صامتة بشأن هذه المسألة. وربما ليس من قبيل الصدفة أن إحدى تسميات «عصائب أهل الحق» خلال فترة تأسيسها كتنظيم منشق عن التيار الصدري كانت «أصحاب الكهف».
• «سرايا أولياء الدم»: قبل ضربة أربيل، لم تُستخدم جماعة الواجهة هذه إلا لتبنّي أربعة تفجيرات صغيرة استهدفت قوافل عراقية محمّلة بعتاد للتحالف عند جانب الطريق. والملفت هو أن بياناتها دائماً ما كانت تُنشر أولاً على قناة “صابرين”، وفي حين ذكرت القنوات التابعة لـ «عصائب أهل الحق» الجماعة بالاسم مرات عديدة، إلا أن القنوات الداخلية البارزة لـ «كتائب حزب الله» لم تُقْدِم على مثل هذه الخطوة قط. وأعلنت الجماعة أيضاً مسؤوليتها عن التفجير بقنبلة عند جانب الطريق استهدفت في 26 آب/ أغسطس 2020 مركبة تابعة لـ “برنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة” في البقعة نفسها التي انطلق منها القصف الصاروخي على أربيل في 30 أيلول/سبتمبر: إنه معقل لـ «عصائب أهل الحق» بالقرب من برطلة في سهل نينوى.
في ظل هذه المعلومات التي تضيء على خلفية هذه المسألة، تقدم الحقائق حول هجوم أربيل دليلاً مقنعاً على مسؤولية «عصائب أهل الحق»:
• الإنذار الموجه من «أصحاب الكهف»: عند الساعة التاسعة ودقيقتين بالتوقيت المحلي، أي قبل الهجوم بثلاثة عشر دقيقة، نشر تنظيم «أصحاب الكهف» بياناً انتقد فيه القيادة الكردية العراقية وهدّد بأن “إنزال الشقاء بأربيل أمرٌ سهل”. وأعادت قناة “صابرين” نشر البيان بعد دقيقة واحدة، لتحذو بعد ذلك حذوها قنوات أخرى.
• التقارير المبكرة التفضيلية من قبل “صابرين”: عند الساعة الثانية عشرة وإحدى عشرة دقيقة ليلاً بالتوقيت المحلي، نشرت قناة “صابرين” خبر تبني «سرايا أولياء الدم» للهجوم. وبعد دقيقة واحدة، كانت “صابرين” مجدداً أول قناة تنشر تصريح التنظيم المؤلف من 113 كلمة حول الهجوم، وذلك قبل سائر قنوات الميليشيات الأخرى. ومنذ ذلك الوقت، تصدرت “صابرين” وغيرها من قنوات «عصائب أهل الحق» التغطية الإعلامية. وفي اليوم التالي عند الساعة الخامسة و33 دقيقة من بعد الظهر، كانت “صابرين” أيضاً أول قناة تنشر بياناً رسمياً عن الحادث الذي وُصف بأنه عمل من أعمال «سرايا أولياء الدم». ثم أعيد لاحقاً نشر هذا البيان، الذي انتقد الولايات المتحدة وتركيا والقيادات الكردية، عبر حساب التنظيم على “تيليجرام”. ولم يطعن أي تنظيم آخر في هذه المزاعم أو يكررها، مما يدل بقوة على مسؤولية «عصائب أهل الحق» وتفادي التضارب مع الميليشيات الأخرى المدعومة من إيران.
لا ينبغي أن تكون مشاركة «عصائب أهل الحق» مفاجأة، لأنها تنسجم كثيراً مع أنماط التنظيم الراسخة. وكما سبق وذكرنا أعلاه، فإن «عصائب أهل الحق» خرقت الهدنة بين الميليشيا والولايات المتحدة مرتين عبر إطلاق صواريخ على السفارة الأمريكية في بغداد. وقد انتقدت «كتائب حزب الله» بشدة كِلا الهجومين، مما أدى إلى تبادل رسائل عدائية مع «عصائب أهل الحق» وإصدار «أصحاب الكهف» بياناً في 31 كانون الأول/ديسمبر بدا أنه ينتقد استراتيجية «كتائب حزب الله» ضد التحالف ويطلق على الجماعة لقب “المنافقين المرتعدين”. كما بدا تنظيم «عصائب أهل الحق» مستاءً مما اعتُبر ضبط النفس من الجانب الإيراني، بإطلاقه صاروخاً واحداً على السفارة الأمريكية في الوقت نفسه الذي وصل فيه قائد «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني إسماعيل قاآني إلى العراق لإجراء محادثات حسن النية، الأمر الذي أحرج العميد.
وفي أعقاب هجوم أربيل والهجوم الأصغر الذي استهدف السفارة الأمريكية في 22 شباط/فبراير، استأنفت القنوات التابعة لـ «عصائب أهل الحق» سجالها مع «كتائب حزب الله» وحسابات أخرى، منتقدة مرة أخرى ضبط النفس المتصوَّر ضد التحالف بعد أن نأت «كتائب حزب الله» بنفسها علناً عن الهجومَين. وجاء ذلك على الرغم من إشادة متحدث باسم «كتائب حزب الله» بالهجوم على السعودية الشهر الماضي، مما يدل على أن موقف التنظيم الظاهري لا يتمثل في ضبط النفس بشكل كامل.
وجدير بالذكر أن أيّاً من هذه المعلومات المفتوحة المصدر تستبعد بشكل قاطع احتمال أن يكون هجوم أربيل عبارة عن عملية مشتركة بين «عصائب أهل الحق» والميليشيات الأصغر مثل «كتائب سيد الشهداء» أو «كتائب الإمام علي»، كما أنها لا توضح المستوى الدقيق لتورط إيران. ومع ذلك، فإنها تسهم بشكل كبير في إزالة طبقات التعتيم، مما قد يمكّن السلطات بفرض العواقب على المتورطين، وفي النهاية مساعدة الضحايا على طلب التعويض عن إصاباتهم.
الإسناد يعني المحاسبة والردع
حين تعجز الولايات المتحدة وشركاؤها عن إسناد مسؤولية الهجمات بسرعة ودقة إلى فاعلين محددين، يترتب عن ذلك عدة نقاط سلبية: فالمذنبون لن يدفعوا ثمن أفعالهم وقد يستنتجون أنه بوسعهم الهجوم مرة أخرى بدون خوف من الانتقام؛ كما ستبدو الولايات المتحدة ضعيفة حيث ستكون أعظم قوة عسكرية على وجه الأرض قد سقطت فريسةً لحفنة من الدعاة على الإنترنت الذين يديرون قنوات على “تيليغرام” و”تويتر” و”فيسبوك”؛ وسيلاحظ ذلك خصوم آخرون في الصين وروسيا وكوريا الشمالية.
لكن الخبر السار هو أنه بوسع السلطات الأمريكية إيجاد وفرة من الأدلة لإسناد المسؤولية باستخدام المصادر المفتوحة والتقارير الاستخبارية السرية. وعلى الرغم من أن المعلومات الاستخباراتية الفائقة السرية (على سبيل المثال، عمليات اعتراض الإشارات السرية) قادرة على توفير برهان أوضح على أعمال العدو ونواياه، إلّا أن حق الوصول إلى مثل هذه البيانات يقتصر على بعض المسؤولين ويصعب جداً استخدامه في سياق السياسات أو القانون خوفاً من فضح المصادر والأساليب الاستخباراتية. فضلاً عن ذلك، وخلال جائحة “كوفيد-19″، اضطر العديد من موظفي المكاتب الحكومية الأمريكية إلى العمل من المنزل حيث يفتقرون إلى إمكانية الوصول إلى المعلومات الاستخبارية السرية فتعلموا تقدير “ثورة المصادر المفتوحة” للمعلومات المتوفرة للعامة وإن كانت صعبة الإيجاد. يجب ألا تعود الوكالات الأمريكية إلى عادة الاعتقاد بأن المعلومات الاستخباراتية عالية السرية فقط هي التي يمكن أن توفر أدلة حيوية في الحالات المشابهة لهجوم أربيل.
وبالفعل، في سبيل منع الميليشيات من إيجاد بيئة “ما بعد الحقيقة” لا تحاسَب فيها على هجماتها الإرهابية أو انتهاكاتها لحقوق الإنسان، يجدر بالسلطات المختصة في واشنطن وأوروبا اعتماد أساليب قوية لجمع المعلومات الاستخباراتية تشمل مراقبة وسائل التواصل الاجتماعي واستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي وتحليلات الخبراء. في هجوم أربيل، تشير الأدلة القوية إلى أن «عصائب أهل الحق» هي الفاعل الأساسي، ولكن إذا كانت ميليشيا أخرى مثل «كتائب سيد الشهداء» هي المسؤولة عن قيادة الدفة، فمن شأن ذلك أن يطرح أسئلة معقدة حول كيفية السماح للشبكات الإعلامية مثل “صابرين” وتنظيمات الواجهة مثل «سرايا أولياء الدم» بتبني هجمات نفذتها خلايا أكثر غموضاً، أو كيفية تقلّب تحالفها مع الميليشيات المختلفة.
ومن المهم بشكل خاص جمع الأدلة على نطاق واسع نظراً للانتشار المتزايد “لحرب القانون” الهجومية والدفاعية. فالميليشيات المدعومة من إيران تدرك أنها تتحمل مسؤولية قانونية عن أفعالها، لذلك تسارع الآن إلى تحميل التحالف مسؤولية الخسائر المدنية عندما تنحرف الهجمات الصاروخية عن مسارها المخطط، وقد هددت برفع دعاوى قضائية ملفقة ضد الجهات العراقية والغربية.
علاوة على ذلك، تُعتبر القدرة على إسناد المسؤولية الخطوة الأولى للضحايا العراقيين وضحايا قوات التحالف الذين يسعون إلى الإنصاف عن الإصابات والوفيات غير القانونية الناجمة عن قنابل الميليشيات وصواريخها. وقد تتحمل الدولة العراقية بعض المسؤولية أيضاً، نظراً لأن تنظيمات مثل «عصائب أهل الحق» و«كتائب سيد الشهداء» منضوية بشكل قانوني في «قوات الحشد الشعبي» التي تمولها الدولة. ومن هذا المنطق، بوسع سكان «إقليم كردستان العراق» المتضررين من هجوم 15 شباط/فبراير رفع دعاوى قضائية للمطالبة بالتعويضات من الحكومة العراقية، شأنهم شأن سكان بغداد المتضررين من الضربات الصاروخية السابقة للميليشيات هناك.
وفي الوقت نفسه، قد يتمكن المواطنون الأمريكيون المتضررون من تلك الهجمات من نيل التعويضات بموجب قوانين الولايات المتحدة المتعلقة برعاة الإرهاب الأجانب، على غرار “قانون مكافحة الإرهاب والتنفيذ الفعلي لعقوبة الإعدام” (AEDPA 1996) و”قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب” (“جاستا 2016”). ولم يتم تصنيف العراق حالياً كدولة راعية للإرهاب، ولكن إيران مصنفة كذلك، كما أدرجت واشنطن كل من «عصائب أهل الحق» و «كتائب حزب الله» على قائمة الإرهاب أيضاً. وقد نجح أشخاص أمريكيون في رفع عدة دعاوى ضد إيران ووكلائها، وصدرت في معرض ذلك أحكام قضائية بحق طهران تقضي بدفع مبالغ نقدية كبيرة تعويضاً عن أعمال غير مشروعة نفذتها «عصائب أهل الحق» ضد الأمريكيين في العراق (على غرار قضية فريتز ضد جمهورية إيران الإسلامية لعام 2018).
كريسبين سميث
معهد واشنطن