أخطأت أم أصابت حكومات الدول الغربية، عندما اعتذرت عن المشاركة فى احتفالات الصين العسكرية، بمرور سبعين عاما على نهاية الحرب العالمية الثانية؟ لن نسمع إجابة شافية وواضحة، فالموضوع لا يتعلق بقواعد بروتوكولية أو واجبات شكلية، وإنما بموقف شديد الحساسية وتوقيت بالغ الأهمية بالنسبة لتوازنات القوة على مستوى القيادة الدولية.
***
أراد الغرب باعتذاره أن يبعث برسالة إلى الصين، فحواها أنه لا يشجع السرعة التى تتحرك بها الصين نحو امتلاك أقصى قوة عسكرية ممكنة. أما الصين فبإصرارها على دعوة رؤساء عديدين وبخاصة رؤساء دول حلفاء الحرب العالمية الثانية، أرادت أن تبعث برسالتين: الأولى تقول فيها إنها كانت طرفا أساسيا فى الحرب العالمية الثانية، وهى ترفض تعمد أكثر المؤرخين والسياسيين الغربيين إنكار هذا الواقع.
تقول الصين، إنها اشتركت فى «الحرب العالمية ضد الفاشية» عندما قاومت الاحتلال اليابانى وفرضت عليه الانسحاب من الأراضى الصينية. انتصرت وواجب الغرب أن يسجل لها هذا الشرف. أما الرسالة الثانية، فهى إن كانت تقصد الغرب أساسا ودول إقليمى شرق وجنوب شرق آسيا، إلا انها خرجت من بكين تحمل عنوان «العالم»، فهى القائلة إن هذا الاستعراض العسكرى سيكون الإعلان الأول والأهم عن انطلاق مرحلة جديدة على طريق الصين نحو القمة الدولية. سبقته بطبيعة الحال إجراءات وتشريعات وتحولات مثيرة خلال العام الأول من حكم الرئيس تشى، تشير جميعها إلى أن مرحلة الرئيس دينج تشاوبنج انتهت، ومرحلة جديدة بدأت. كانت غير خافية الاستعدادات التى جرت فى الصين خلال العام المنصرم من أجل الاحتفال بهذه المناسبة، مناسبة مرور سبعين عاما على انتهاء الحرب العالمية الثانية. لتكون الفرصة الممتازة لتقديم دليل مؤكد للعالم الخارجى والشعب الصينى على ما وصلت إليه الصين من مكانة عسكرية. ولاشك أن الرسالة بهذا المعنى وصلت بالفعل إلى العواصم الغربية، فجاء قرار الاعتذار عن المشاركة بمثابة الاعتراض، على أن تكون فرصة إعلان الانطلاق نحو مكانة الدولة العظمى مناسبة عسكرية، أى من قاعدة القوة وليس من منطلق السياسة والاقتصاد.
***
وصلت الرسالة بالوضوح نفسه إلى عواصم أخرى غير غربية، بعضها، بحكم التاريخ والموقف والدور، طرف أصيل فى التوازى الجديد للقوة الدولية. اليابان من ناحيتها لم تتأخر. إذ تحاول حكومة طوكيو بكل الجهد الممكن والسرعة اللازمة الارتفاع إلى مستوى جديد فى علاقات اليابان الخارجية وفى قوتها العسكرية، بل وقد يصل الأمر فى وقت قريب، إلى إدخال تعديلات دستورية لم تجرؤ حكومة سابقة على الإقدام عليها أو حتى التقدم بها إلى الشعب. لقد استقر فكر العلاقات الدولية وتطوراتها خلال السبعين عاما الماضية على قاعدة حرمان اليابان من القوة العسكرية الهجومية، لضمان عدم تكرار تلاحم الشعور القومى الفياض بالقوة الاقتصادية والعسكرية الفائقة، هذا التلاحم الذى دفع باليابان إلى تنفيذ طموحات ومغامرات إمبريالية فى مجالها الآسيوى. كان الضامن الحقيقى والفعلى خلال السبعين عاما هو الشعب اليابانى نفسه، وليس الاتفاقات الخارجية أو الدستور أو التحالفات العسكرية والسياسية التى أقامتها حكومات اليابان مع أمريكا وغيرها.
جدير بالذكر، أن الاختلاف النسبى الذى طرأ على واقع الحال فى اليابان. يشهد واقع الأمر الآن بأن كتلة الرفض الصماء الذى منعت تسلح اليابان خلال هذه المدة، تعرضت خلال السنوات الأخيرة لشقوق، إذ خرجت أصوات قومية متطرفة ومعتدلة على حد سواء تطالب بتعديل الدستور وبناء قوة عسكرية ذاتية، تستطيع مواجهة الاستعدادات العملاقة التى تجرى على أراضى الصين وفى بحارها. بالفعل يصعب علينا إنكار أهمية الدور الذى لعبته الشكوك التى تسربت إلى الرأى العام اليابانى عبر السنوات الأخيرة عن «صدقية» ومتانة الحماية التى تكفلها الاتفاقيات العسكرية المعقودة مع الولايات المتحدة. هذه الشكوك فى قدرة واشنطن على الوفاء بالتزاماتها لحلفائها لم تقتصر على اليابان، بل تمددت حتى صارت قناعة عامة فى أنحاء عدة من العالم. ظهرت واضحة فى الشرق الأوسط، وبخاصة فى مختلف عواصم دول الجزيرة العربية وعواصم عربية أخرى، من بينها مصر بل وأيضا فى إسرائيل وتركيا، ومن الشرق الأوسط يبدو أنها انتقلت إلى دول «الآسيان» وحلفاء أمريكا فى شرق آسيا.
***
اليابان ليست وحدها الواقعة تحت ضغط الوقت فى السباق من أجل زيادة القدرة الذاتية اللازمة للدفاع عن النفس، سواء عن طريق بناء قوة عسكرية أو بناء تحالفات إقليمية جديدة أو باستراتيجيات وسياسات تكفل ردع الصين عن تنفيذ مغامرات خارجية فى المستقبل. هناك روسيا أيضا. واضح للكافة أن الرئيس فلاديمير بوتين، وضع لنظامه هدف استعادة بعض مكانة كانت لروسيا فى نظام القيادة الدولية. نعرف أيضا أنه حاول تحقيق هذا الهدف بالتدريج تفاديا لإقدام دول الغرب على فرض المزيد من أنواع الحصار والقيود على روسيا. يبدو من سلوكيات روسية متعددة خلال الشهور الأخيرة، أن روسيا قررت هى الأخرى تسريع خطوات تسلحها وإقامة أحلاف خارجية جديدة واستعادة مواقع وقواعد عسكرية هامة فى الخارج. لا جديد يستدعى هذا التسريع فى بناء القوة الروسية سوى ضخامة وسرعة إجراءات بناء قوة عسكرية صينية فائقة، وارتدادات هذا التطور فى الولايات المتحدة واليابان.
***
الدوافع الأخرى وراء زيادة النشاط العسكرى الروسى عديدة، منها الحرب الدائرة فى أوكرانيا والفوضى السياسية والعسكرية الضارية على بعد مسافة خمسمائة كيلو متر فى الشرق الأوسط، أى فى مناطق متاخمة للحدود الروسية، ومنها تدهور الأحوال فى أفغانستان مع اقتراب رحيل قوات الحلف الغربى. ولكن تبقى فى مقدمتها، هذه الطفرة الهائلة فى تنفيذ برامج التسليح فى الصين ونوعية الأسلحة الجديدة، ومستويات تدريب القوات المسلحة الصينية، أغلب الظن أن روسيا كانت تأمل فى أن تسلك الصين مسالك متدرجة نحو بناء القوة العسكرية المناسبة، فإذا بها تجد نفسها أمام واقع اختصر إلى حدود دنيا مساحة الوقت الذى كانت تأمل فيه روسيا. من الصعب فى الحقيقة، تصور أن قيادة حاكمة فى روسيا تقبل الانتظار عند حد معين من القوة العسكرية، بينما تتجاوز الصين كل الحدود فى مسيرتها نحو مكانة الدولة «الأعظم» على الإطلاق، وفى الغالب يظل حلما بعيدا، أو نحو مكانة الدولة الأعظم المشاركة فى القيادة الدولية. الانتظار الروسى معناه أن تتراجع مكانة روسيا النسبية فى القيادة الدولية مع كل صعود فى القوة الصينية، معناه أيضا أنه يحدث هذا التراجع فى وقت أقصر من المتوقع إذا لم تنتهز روسيا فرصة العشر سنوات، أو ربما العشرين، اللازمة لتستكمل الصين بناء القدرات العسكرية اللازمة لدولة عظمى.
أغلب الظن، أن حكومة موسكو سوف تحاول تنشيط أو إقامة فرص قوة بديلة، كالاستفادة من مواقع ضعف فى استراتيجية الصين فى الشرق الأوسط وربما فى بعض دول وسط آسيا، والاستفادة من حاجة الولايات المتحدة لبقايا النفوذ الروسى لتسوية نزاعات دولية، مطمئنة إلى حقيقة أنه لا توجد لدى الصين خبرات دبلوماسية وعلاقات خارجية وقواعد نفوذ كافية لتؤدى أدوارا حيوية فى مهمة المساعدة فى تسوية النزاعات الدولية.
***
ليس بعيدا تماما عن الحقيقة الشعور فى بعض عواصم جنوب وجنوب شرقى آسيا، بضرورة البحث عن حلول واقعية لمستقبل علاقاتها بالصين. يصعب تصور أن هذه العواصم ستلقى بمسئولية الدفاع عن الإقليم كاملة على الولايات المتحدة. اتصور على العكس، أنها سوف تلجأ إلى وضع قواعد تعامل جديدة فى الصين، تضمن إقامة نظام أمنى مناسب، يكون فيه للولايات المتحدة دور غير جوهرى. لن يحدث هذا فى عام أو عامين وربما ليس قبل مرور عقدين من الزمن، وفى كل الأحوال لن تكون فى مصلحة رخاء وأمن دول جنوب شرقى آسيا وضع مشاريع أمن وحماية تحت مظلة الولايات المتحدة وحدها.
معلوم أيضا للصين كما لغيرها أن القوة العسكرية وحدها لن تحقق للصين هدف الوصول إلى مكانة الدولة الأعظم أو دولة عظمى مشاركة فى القمة الدولية. يبقى لنا أن نرى ونتابع الصين خلال السنوات المقبلة، وهى تبنى قواعد للنفوذ السياسى والدبلوماسى فى أنحاء شتى من العالم، وهو العمل الذى لم يتسم بعد بالسرعة أو الضخامة التى تتسم بهما عمليات بناء القوة العسكرية الصينية.
جميل مطر
صحيفة الشروق المصرية