أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية أمس الخميس عن مجموعة واسعة من العقوبات على روسيا وذلك ردا على تدخلها في الانتخابات الأمريكية عام 2020 ومسؤوليتها عن عمليات تسلل الكتروني وتهديدها المتعاظم لأوكرانيا إضافة إلى أنشطة «خبيثة» أخرى مثل تسميم المعارض أليكسي نافالني وسجنه. استهدفت العقوبات شركات روسية، وطرد دبلوماسيين، وفرض قيود على سوق الدين السيادي الروسي، وشملت 32 من الكيانات والأفراد.
من جهتها، وفي سلوك اعتيادي لا يتغيّر، فقد قامت موسكو بإنكار مسؤوليتها عن هذه الأفعال وقالت وزارة خارجيتها أن الرد على العقوبات «سيكون حتميا ومدروسا» ليتم إعلانه في أقرب وقت، لكنّ وسائلها الإعلامية الرسميّة احتفت بإعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن أن لقاءه المرتقب مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، سيكون حاسما لوقف التصعيد في العلاقات.
يُحتسب الفعل الروسي ضمن الرغبة في الإعلان أن إدارة الرئيس بوتين هي في موقع القوة العظمى، وأنها الخصم الذي لا يمكن عقابه من دون توقع ردّ مقابل، أما الموقف الأمريكي فيقوم على خيار «العصا والجزرة».
يتوقّع الأمريكيون، والمنظومة الدوليّة، من واشنطن التحرّك ضد أي هجوم يستهدفها، كما هو حال التدخل في الانتخابات، أو يتعرّض لتوازنات العالم، كما هو الحال في التصعيد الروسي ضد أوكرانيا، أو حتى بما يتعلّق بالقضايا الروسيّة فيما يخصّ تعامل الكرملين مع المعارضة.
لا ترغب الإدارة الأمريكية، مع ذلك في مواجهة مفتوحة مع موسكو وهذا ينطبق على طبعة الرئيس السابق الجمهوري دونالد ترامب، الذي اضطرّ أكثر من مرة لمواجهة تهديدات الدب الروسيّ بعقوبات، ولكنّه كان المرشّح الأمريكي المفضّل بالنسبة لبوتين، أو في طبعة الرئيس الديمقراطي بايدن، الذي تعهّد في حملاته الانتخابية بمواجهة روسيا، وقد شهدنا أمثلة واضحة على خذلان واشنطن لتركيا وأوكرانيا وجورجيا وللسوريين، وتشارك في ذلك الرؤساء الجمهوريون والديمقراطيون.
تستغلّ إدارة بوتين نزوع الأمريكيين والأوروبيين لتجنّب مواجهة مباشرة مع روسيا بفتح الباب لجواسيسها لتصفية خصومها السياسيين في الخارج (كما حصل عدة مرات في بريطانيا) وبنشر شبكاتها التجسسية الفعلية في أي موقع ممكن (كما كُشف مؤخرا في إيطاليا) وفي التدخّل في عمليات التصويت والانتخاب، ونشر معلومات مضللة، وكذلك بنشر مرتزقة فاغنر في مواقع الصراع العالمية، ولا تتورّع عن ضم مناطق تابعة لدول أخرى (كما حصل في استيلائها على شبه جزيرة القرم الأوكرانية) أو العمل المباشر على تغيير أنظمة حكم وحكومات.
تردّ أمريكا وأوروبا على هذه التدخّلات بعقوبات اقتصادية وسياسية ودبلوماسية، كما أنها تقوم أحيانا بمواجهات عسكرية مباشرة نادرة، أو بتسليح حلفائها، لكنها تترك دائما أبوابا للتحرّك السياسي والدبلوماسي في محاولة تكاد تكون ميؤوسة لترويض الدبّ الروسي، وفي المقابل تتابع موسكو عملها «المعتاد» كما لو أنها غير مكترثة بتراكم العقوبات الاقتصادية والسياسية، في محاولة، من جهتها أيضا، لـ«ترويض» العالم الغربيّ بإيصاله لقناعة أن موسكو لن تتوقف عن أعمالها الحربيّة والأمنية وتمديد مجالها الحيويّ، وأن عليه أن يكفّ عن معاقبتها لأنها لن تردّ على العقوبات فقط، بل هي مستعدة لدفع الأمور نحو الهاوية التي لا يريد أحد في العالم أن يمضي إليها.
لقد تمكّن العالم الغربيّ سابقا من تفكيك الاتحاد السوفييتي منهيا حربا «باردة» لكنها لا تكفّ عن الاشتعال في أرجاء العالم، مهددة، في أحيان كثيرة، بإبادة الجنس البشريّ بأكمله، والآن، في مسعاها لوراثة الدور السوفييتي، تحاول روسيا بوتين مجددا استعادة «الأمجاد» القديمة ليس للاتحاد السوفييتي فحسب بل للامبراطورية الروسيّة القديمة التي كانت موعودة باقتسام الشرق الأوسط (بما فيها تركيا) والاتصال الجغرافي بأوروبا والبحار الدافئة، والمراهنة الآن على: من سيروّض الآخر؟
القدس العربي