منذ وصوله إلى سدة الحكم بدا أن من الأولويات القصوى والمبكرة لإدارة الرئيس جو بايدن، التعامل مع الأزمة المتصاعدة مع إيران.
مع اقترابها من الحصول على ما يكفي من المواد الانشطارية لامتلاك سلاح نووي، لذلك رشحت إدارته روبرت مالي، مستشار السياسة الخارجية السابق في إدارة باراك أوباما، ليكون مبعوثاً خاصاً في الشأن الإيراني، في خطوة تعطي هذا الدبلوماسي دوراً قيادياً في واحدة من أهم وأصعب تحديات السياسة الخارجية التي تواجه الإدارة الأمريكية الجديدة.
مطلع شهر أبريل خرجت تصريحات مفاجئة وتشكل تراجعا عن تعهدات إدارة جو بايدن حول الاتفاق النووي، فقد تحدثت إدارة بايدن سابقا عن صفقة “أطول وأقوى”، لكن بدا الأمر كله وكأنه يتعلق بالعودة إلى صفقة 2015، تلك التصريحات أعلنها المبعوث الأمريكي إلى إيران روبرت مالي، والذي ذكر أن الهدف من المحادثات هو العودة إلى الاتفاق النووي، دون الدعوة إلى تقويته أو إضافة اتفاقيات جانبية، مما خلط الأوراق كثيرا في المنطقة.
روبرت مالي لمن لا يتذكره كان عضواً رئيسياً في فريق أوباما في التفاوض على الاتفاق النووي مع إيران والقوى العالمية الذي أُبرم عام 2015، وانسحب منه الرئيس السابق دونالد ترامب عام 2018، على الرغم من المعارضة القوية من جانب حلفاء واشنطن الأوروبيين.
وعندما عرض اسمه إعلامياً بوصفه مرشحاً للمنصب انهالت انتقادات من بعض المشرعين الجمهوريين، الذين عبروا عن قلقهم من أن يبدي تساهلاً إزاء إيران؛ حيث الخوف مثلا من أن العودة للاتفاق القديم ستختفي معه عقوبات “سناب باك snapback” السريعة في عام 2025، وفي عام 2030 ستنتهي جميع القيود النووية، وحتى الأوروبيين يقولون عن هذا الأمر إنه أمر مروع أن تقوم إيران بتطوير اليورانيوم، وسوف يصبح ذلك قانونيا في عام 2030 إن تمت العودة كما قلنا للاتفاق القديم.
في الخليج هناك وضوح في التصريحات لا يحتمل اللبس، فقد صرحت وزارة الخارجية السعودية قبل أيام وتساءلت: لماذا تعلن إيران -بصوت أعلى المسؤولين مثل الرئيس حسن روحاني- أنها قادرة على التخصيب بنسبة 80 في المئة متى شاءت، وبسرعة قياسية فيما يقيدها الاتفاق النووي بنسبة أقل من 4 في المئة؟ وكذلك تتمسك دول مجلس التعاون الخليجي بموقفها الثابت من البرنامج النووي الإيراني وضرورة التشاور معها حول المفاوضات الجارية بهذا الخصوص، وأيضا على “ضرورة أن يشمل أي اتفاق مع إيران برنامجها لتطوير الصواريخ الباليستية، ومواصلة تدخلها في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، ودعمها للتنظيمات والمليشيات الإرهابية”، بل إن الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي يعلن في كل مناسبة أن “أي اتفاق لا يأخذ في الحسبان هذه الاعتبارات لن يكتب له النجاح”.
اليوم هناك عدد من المبعوثين الأمريكيين يتوجهون إلى الشرق الأوسط لإجراء محادثات مع حلفاء رئيسيين للولايات المتحدة، وسط تصاعد المخاوف في المنطقة بشأن مسعى الرئيس الأمريكي جو بايدن للانضمام مرة أخرى إلى الاتفاق النووي الإيراني، وكانت الصحافة الأمريكية قد نقلت الأسبوع الماضي عن أحد المسؤولين قوله إنه “سيسافر وفد رفيع خلال الأسبوع المقبل لمناقشة عدد من القضايا المهمة المتعلقة بالأمن القومي الأمريكي والجهود المستمرة لتخفيف التوتر في منطقة الشرق الأوسط”، وأن الوفد سيرأسه منسق سياسات الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي التابع للبيت الأبيض بريت ماكجورك، ومستشار وزارة الخارجية الأمريكية ديريك شوليه، وهناك خطط مبدئية للوفد لزيارة السعودية والإمارات ومصر والأردن.
في الوقت الذي أعلن عن جولة جديدة من المفاوضات يوم الجمعة المقبلة بعد عاصفة من التصريحات المتناقضة بين كل الأطراف، فقد أعلن مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان أن “الغموض لا يزال يلف نتائج المفاوضات الجارية في فيينا بين الجهات الموقعة أصلا على الاتفاق النووي مع إيران في مسعى لإحياء الصفقة، والمرحلة الحالية بالاتفاق في نقطة غير واضحة”، وأضاف “رأينا رغبة من جميع المعنيين منهم الإيرانيون في التفاوض بشكل جاد على تخفيف العقوبات والعودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، لكن لم يتضح بعد ما إذا كان ذلك سيفضي في نهاية المطاف إلى إبرام اتفاق في فيينا”.
لكنه ورغم تشكيكه في إمكانية التوصل إلى اتفاق قريب يعيد الولايات المتحدة وإيران إلى الاتفاق النووي، فإنه أكد أن مختلف الأطراف المشاركة في اجتماعات فيينا -بما فيها إيران- تتفاوض بجدية، وهذا أيضا ما نقلته أيضا وكالة رويترز عن مسؤول روسي.
في الخلاصة فإنه بات من شبه المؤكد أن استخدام الإدارة الأمريكية الحالية الاستراتيجية التفاوضية القديمة وإعادة إحيائها لن يوفر للولايات المتحدة ما فشلت إدارة أوباما في الحصول عليه عام 2015، بل الأرجح أن يمر الوقت وتنتهي الأمور إلى إعادة إنتاج الاتفاق القديم في ثوب جديد، لكن دول المنطقة في معظمها ترى الاتفاق المرتقب من جانب مختلف تمامًا، وترى أن امتلاك إيران تقنيات الإنتاج النووي بحد ذاته خطر كبير، بالإضافة إلى شكوك كثيرة في أن تمارس إيران أنشطة نووية في مواقع بعيدة عن أعين وكاميرات مفتشي وكالة الطاقة الذرية، وبصرف النظر عن امتلاك قدرات نووية أو لا من جانب نظام الملالي، فإن إيران تطور صواريخ باليستية بعيدة المدى ودقيقة للغاية، وتمتلك مئات الصواريخ من هذه النوعيات، زودت وتزود بها حلفاءها في سوريا والعراق ولبنان واليمن.
وتواصل برامج تطوير تلك الصواريخ، والطائرات المسيرة، وتواصل تطوير قدراتها على شن هجمات سيبرانية ومجالات أخرى، ويمكن أن تصل تلك الأسلحة بسهولة إلى حزب الله في لبنان والفصائل الفلسطينية في غزة، ولهذا فإن مواجهة الخطر الإيراني كما يرى بعض المراقبين هنا في واشنطن لا يقتصر على الجانب النووي فقط، وللأسف أيضا فإن هذا الاتفاق إن أعيد إحياؤه سيمنح إيران قدرات اقتصادية مهمة سوف تستغلها في دعم مشروعاتها العسكرية، ودعم مليشياتها في الدول التي تسيطر عليها كلبنان والعراق وسوريا.
أخيراً.. يبقى التذكير والتعويل والإشارة إلى أن عدد العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران منذ سنة 2017 أكثر من ألف وخمسمئة عقوبة، ولن يستطيع الرئيس بايدن أن يلغيها بقرار واحد ومصدر بعضها هو الكونجرس الأمريكي، لا الإدارة نفسها، وهناك الكثير من المواقف المنتظرة خلال الأيام المقبلة من أعضاء بارزين ومعارضين داخل الكونجرس للعودة إلى ذلك الاتفاق، ويبقى إشراك الدول المعنية بأمن المنطقة كالسعودية والإمارات ومصر في تلك المحادثات هي بيت القصيد، الذي سيجعل من تلك المفاوضات متوازنة لصالح أمن واستقرار المنطقة بأسرها.
مايا معلوف
العين الاخبارية