في خطابه أمام 200 من أعضاء الكونجرس الأمريكي بمجلسيه “النواب” و”الشيوخ”. توّج الرئيس جوزيف بايدن مرور 100 يوم على دخوله البيت الأبيض بأنه يستطيع الآن أن يقدم تقريراً إلى الشعب الأمريكي “أن أمريكا تعود مرة أخرى إلى التقدم، وتحول الخطر إلى إمكانية، والأزمة إلى فرصة، والنكسة إلى قدرة”. الأغلبية من الأمريكيين سوف يوافقون على الخطاب المتفائل، ولكن في حدود ما نتج عن الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي أعطت للرئيس مكانه في قيادة الإدارة الأمريكية.
استطلاعات الرأي العام حول تقدير القيادة تراوحت بين 52٪ و55٪؛ وهي أغلبية جيدة إذا ما أخذت التقديرات الأمريكية للرؤساء الأمريكيين السابقين في الاعتبار. من الطبيعي أن الجزء الأكبر من المؤيدين جاءوا من الحزب الديمقراطي، حيث أعطى 85٪ منهم تقديراً بين الممتاز والجيد جداً للرئيس. تقدير المحللين السياسيين العام للمئة يوم الأولى أن الرئيس اتبع سياسة صارخة في أنها كانت المضادة تماماً لسابقه دونالد ترامب؛ وفي اليوم الأول من ولايته وقع بايدن 17 قراراً تنفيذياً رئاسياً عكست قرارات اتخذها الرئيس السابق، تعلقت بإلغاء بناء الحائط بين الولايات المتحدة والمكسيك الذي بدأه ترامب ولم يقدر له الانتهاء من بنائه، وعودة أمريكا مرة أخرى إلى اتفاقية المناخ، ومنظمة الصحة العالمية، والسماح بدخول الولايات المتحدة لأشخاص من دول إسلامية منع ترامب مواطنيها من دخول الولايات المتحدة، وهكذا قرارات. ولمن لا يعلم فإن القرارات الرئاسية التنفيذية هي قوانين من حق الرئيس اتخاذها، وهي قابلة للرفض من قبل الكونجرس ولكن بأغلبية الثلثين، وهو المستحيل حالياً على ضوء الأغلبية الديمقراطية في الكونجرس.
ومن جانب آخر، فإن هذه القرارات/القوانين قابلة أيضاً للنقض من قبل رئيس آخر قادم دون الرجوع للكونجرس مرة أخرى. هذه الظاهرة الخاصة بالقرارات الرئاسية التنفيذية جديدة نسبياً في الاستخدام من قبل الرؤساء الأمريكيين، حيث استخدمت بإفراط من قبل الرئيس باراك أوباما، والرئيس دونالد ترامب، وها هو الرئيس جوزيف بايدن ينضم إلى الركب.
ثلاثة أمور مهمة اتصفت بها إدارة بايدن خلال المئة يوم الأولى من ولايته: أولها أنه حقق اختراقاً مهماً في المواجهة مع أزمة كورونا، حيث نجح في التعجيل باستخدام اللقاحات المتعددة حتى تم تطعيم أكثر من نصف الأمريكيين، وبات هدف تطعيم جميعهم في متناول اليد في منتصف العام. جرى ذلك بتصميم، ووفق خطط فاعلة اعتمدت على العلماء والتعاون بين الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات. النتيجة وقبل أن تنتهي المئة يوم الأولى كانت الأرقام الخاصة بالإصابات والوفيات تتراجع بمعدلات ملحوظة، حيث خرجت بالولايات المتحدة من مقدمة دول العالم الأسوأ حالاً إلى الوجود مع حفنة من دول العالم التي تخطو أولى الخطوات نحو الانتعاش الاقتصادي.
وثانيها وخلال فترة قصيرة نسبياً لا تتعدى مئة يوم استخدمت إدارة بايدن أدوات الدولة الأمريكية لكي تنقل الدولة كلها من الانكماش الاقتصادي إلى الانتعاش؛ ووفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي بات ممكناً تصور أن الصين ومعها الولايات المتحدة سوف تقودان الانتعاش الاقتصادي العالمي. أدوات ذلك كانت ثلاث حزم اقتصادية غير مسبوقة في حجمها الكلي، حيث كانت الأولى التي أقرت وجرى استخدامها بالفعل هي 1.9 تريليون دولار لحشد الطاقات من أجل مقاومة “كوفيد 19″، والبدء في عملية الانتعاش من خلال تحفيز الطلب على السلع والبضائع. الثانية وقدرها 2.3 تريليون دولار لتحقيق التحفيز الأكبر للاقتصاد من خلال التجديد الكامل للبنية الأساسية الأمريكية من طرق وجسور ومطارات وموانئ وسكك حديدية ومحطات كهربائية؛ وهي المقدر لها أن تشمل جميع الأرجاء الأمريكية في الولايات المختلفة. والثالثة التي هي في دور التخطيط قبل نهاية المئة يوم الأولى قدرها 1.8 تريليون دولار هدفها تطوير الخدمات الأمريكية في التعليم والجامعات ومراكز البحوث والتطوير التكنولوجي الأمريكي في مجالات الطاقة المتجددة والنظيفة مثل الرياح والشمس والهيدروجين وغيرها.
ثالث الأمور التي سعى إليها بايدن خلال أيامه المئة الأولى كانت في الوجه الذي تقدم به إلى العالم. وكما هو معلوم فإن الرئيس الأمريكي كان قد وعد الأمريكيين بالعودة إلى قيادة العالم مرة أخرى من زاويتين: الأولى قيادة العالم من خلال إنقاذ الكرة الأرضية بمواجهة النتائج السلبية للاحتباس الحراري. والثانية من خلال إعادة تشكيل ما سمّاه “التحالف الديمقراطي” من خلال الفلسفة الليبرالية والقدرة الاقتصادية والعسكرية لأوروبا وشمال أمريكا واليابان وأستراليا والهند. وبالفعل فإن بايدن لم يكتفِ بعودة الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس لمواجهة الاحتباس الحراري، وإنما عقد قمة عالمية افتراضية خاصة بالموضوع، سعى فيها إلى الحصول على التزامات من الدول ذات النصيب الأكبر في تلوث المناخ بأن تعمل على تحقيق التراجع في التلوث خلال فترة زمنية معقولة. وبالفعل فإن الولايات المتحدة والصين وروسيا وغيرها عبرت عن استعدادها للقيام بهذه الخطوات.
ولكن من ناحية أخرى، فإن بايدن اتخذ مجموعة من الخطوات التي تسير في عكس الاتجاه الخاص بالقيادة في المجتمع الدولي؛ منها أولاً الإعلان عن الانسحاب من أفغانستان قبل الحادي عشر من سبتمبر المقبل، ما يعني عملياً إعطاء “طالبان” الفرصة لإعادة السيطرة على أفغانستان مرة أخرى بعد عقدين من الحرب معها والخروج من كابول العاصمة. وثانيا العودة مرة أخرى إلى التفاوض مع إيران رغم سلوكياتها في المجال النووي والعدوان الإقليمي وتطويرها للأسلحة الصاروخية. وثالثاً أن الحملة الليبرالية الديمقراطية وحقوق الإنسان على روسيا فيما يخص المنشق الروسي “نافالني” واتهام الرئيس فلاديمير بوتين بأنه قاتل، والصين فيما يخص هونج كونج، والدول الحليفة في قضايا أخرى كل هذا سمم الكثير من آبار العلاقات مع الولايات المتحدة.
المئة يوم الأولى أعطت الرئيس بايدن وجهاً إيجابياً في الداخل الأمريكي، خاصة بعد إنجازه فيما يتعلق بجائحة كورونا، ولكنه في الوقت ذاته لم يقدم كثيراً لتحقيق “الوحدة” التي وعد الشعب الأمريكي بها بين الديمقراطيين والجمهوريين. ما حدث فعلياً أنه أحدث المزيد من الخندقة بين المعسكرين نتيجة موقف بايدن خلال المئة يوم من قضية الهجرة التي تؤرق الأمريكيين البيض وينظر لها بتوجس من طوائف أخرى؛ كما أن تدخل الدولة في الاقتصاد وإدارة الحياة العامة من خلال زيادة غير مسبوقة في الإنفاق الحكومي كلها تؤرق المحافظين الأمريكيين، ويرون فيها تدميراً للاقتصاد الأمريكي القائم على المبادرة والاعتماد على الذات وليس العون الحكومي المباشر نقداً أو غير المباشر من خلال الوظائف المختلفة.
وفي خارج الولايات المتحدة، فإن القلق أكثر حدة خاصة من جانب روسيا التي ترى بايدن أنه غير مدرك للمكانة التي حققتها موسكو في العالم خلال السنوات السابقة؛ أما بالنسبة للصين فهي لا ترى في خطوات بايدن تعبيراً عن تراجع القوة الأمريكية في مواجهة القوة الصينية المتصاعدة. في الشرق الأوسط فإن صورة بايدن المتراجعة أمام إيران، والتي لا تقدر عدوانية الجماعة الحوثية، ولا تتفهم التغيرات التي جرت في الإقليم من السلام الإبراهيمي إلى الإصلاح العميق في دول عربية عديدة، لا تبدو مبشرة بأن تكون الولايات المتحدة جزءاً من حل معضلات المنطقة وليس جزءاً من المشكلة.
عبدالمنعم سعيد
العين الاخبارية