شهدت الساحة الفلسطينية في الأيام القليلة الماضية تطورات مهمة، لم تؤد فقط إلى انتقال الحركة الوطنية الفلسطينية من حال إلى حال آخر، وإنما أيضا إلى تغيير جوهري في الأوضاع المحيطة بالقضية الفلسطينية، عربيا وإقليميا ودوليا، فقبيل اندلاع الحرب الإسرائيلية، أخيرا، على قطاع غزة، كانت سلطة رام الله قد اتخذت قرارا منفردا بإلغاء الانتخابات الفلسطينية التي عوّلت عليها أغلبية الشعب الفلسطيني لإنهاء أزمة الشرعية التي عانت منها المؤسسات الفلسطينية سنوات طويلة، ما أحدث صدمة كبيرة كادت تصيب الحركة الوطنية الفلسطينية في مقتل، وتقضي نهائيا على آمال تحقيق المصالحة بين فصائلها. لذا يمكن القول، من دون تجاوز، إن الوضع الفلسطيني بدا في أسوأ حالاته عشية تلك المواجهة، ما شجّع سلطات الاحتلال الإسرائيلي على مواصلة استفزازاتها، والدفع بأكثر عناصر اليمين الاستيطاني تطرّفا لاقتحام المسجد الأقصى، حتى في ليلة القدر، والتحرّش بسكان في حي الشيخ جرّاح لإجبارهم على مغادرة منازلهم. وعلى الرغم من تحذير الفصائل الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة إسرائيل، بالتأكيد على أنها لن تقف مكتوفة الأيدي، أو تكتفي بموقف المتفرّج على ما يجري في المدينة المقدسة، إلا أن أحدا لم يأخذ هذه التحذيرات آنذاك على محمل الجد. وعندما بدأت الصواريخ التحذيرية تنطلق من قطاع غزة المحاصر، وتطاول ضواحي القدس، الأمر الذي اعتبره رئيس حكومة الاحتلالـ نتنياهو، تجاوزا لكل الخطوط الحمراء، ومبرّرا لشن حربٍ شاملةٍ على القطاع، لم يتصور أحد إطلاقا أن يجيء أداء المقاومة المسلحة في غزّة على هذا المستوى من البسالة والروعة.
على الفصائل الفلسطينية أن ترتفع إلى مستوى اللحظة الراهنة، وأن تشرع على الفور في إجراء انتخابات تجدّد عبرها شرعية المؤسسات الفلسطينية
تابعت ما كان يجري بقلق شديد في البداية، متخوفا من أن تنتهي هذه الجولة من الصراع كسابقاتها، أي بدمار كبير يصيب قطاع غزّة، تعقبه فترة هدنة طويلة، تتيح لقادة إسرائل أن يواصلوا استكمال بناء مشروعهم الاستيطاني التهويدي بوتيرة أكبر. ولكن مخاوفي ما لبثت أن تبدّدت، حين بدأت أكتشف أن أداء المقاومة الفلسطينية، هذه المرّة، يبدو مختلفا جدا. وهكذا رحت أسائل نفسي بانبهار: كيف لقطاعٍ محاصر منذ 14 عاما، ولا تتجاوز مساحته 365 كيلومترا مربعا، ويعيش فيه أكثر من مليوني نسمة، أن يتمكّن من شل الحركة في مطار بن غوريون، وأن يجبر معظم سكان دولة تمتلك واحدا من أقوى جيوش العالم على قضاء أوقاتهم في الملاجئ طوال فترة المواجهة؟ وحين جاءت اللحظة الحاسمة التي اضطرّ فيها نتنياهو لقبول وقف إطلاق النار، في وقت كانت صواريخ المقاومة ما تزال قادرة على الانطلاق، وإصابة أي مكان في الأرض المحتلة تقريبا، وكان الشعب الفلسطيني يعزف سيمفونية وحدته المتألقة والملتفة حول المقاومة، وكانت الشعوب العربية، ومعها شعوب العالم كله، تنتفض تضامنا مع نضال الشعب الفلسطيني، أيقنت أن القضية الفلسطينية دخلت مرحلة جديدة واعدة، وأن فجرا جديدا ربما يكون على وشك أن يولد في المنطقة.
لا أظن أنني أبالغ إن قلت إن ما جرى إبّان الحرب أخيرا على قطاع غزة أسقط أوهاما كثيرة، في مقدمتها وهم القدرة على تصفية القضية الفلسطينية، سواء عبر مبادراتٍ تطرحها قوى كبرى، من قبيل “صفقة القرن” التي طرحتها الإدارة الأميركية في عهد ترامب، أو عبر محاولات لتهميشها عربيا، بالالتفاف حولها والسعي إلى تطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل، قبل إيجاد حل نهائي ودائم للقضية الفلسطينية (اتفاقات أبراهام). ولا أظن أنني أبالغ أيضا إن قلت إن ما جرى أماط اللثام عن الوجه الحقيقي للحركة الصهيونية التي يجسّدها النظام السياسي الإسرائيلي، باعتبارها حركة توسعية استيطانية، يعبر عنها نظام لا يمكن أن يقوم إلا على التمييز والفصل العنصري (الأبارتهايد)، ومن ثم فإن تصفيته باتت شرطا ضروريا ومقدمةً لابد منها للتوصل إلى تسوية عادلة للقضية الفلسطينية. بعبارة أخرى، يمكن القول إن القضية الفلسطينية، دخلت بعد الحرب أخيرا على قطاع غزّة، مرحلة جديدة تفرض على الحركة الوطنية الفلسطينية أن تعمل بالتوازي على تحقيق هدفين متزامنين: تمكين الشعب الفلسطيني من الحصول على حقه في تقرير مصيره وبناء دولته المستقلة، على الأقل في حدود 1967، مع عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وتعويضهم وفقا لقرار الأمم المتحدة 194. إزالة السمات العنصرية للنظام السياسي الإسرائيلي، لتمكين الفلسطينيين المقيمين على أرضهم المحتلة قبل حرب 48 من التمتع بكل حقوق المواطنة والتعبير عن هويتهم الأصلية بحرية.
مبادرة السلام التي اعتمدتها قمة بيروت العربية لعام 2002 تصلح بديلا لمرجعية أوسلو، ولا ينقصها سوى وجود آلية
قد يرى بعضهم في هذا الطرح نوعا من الجموح العاطفي، أو شكلا من أشكال الخيال السياسي، المستمد من عالم الأمنيات والأحلام، غير أنني أعتقد جازما أن الشعب الفلسطيني، وبعد أن أثبت جدارته وقدرته على تحقيق الصمود، أصبح اليوم أكثر جهوزيةً للتطلع نحو مرحلة التحرير والقيام بكل ما تتطلبه من مهام ومسؤوليات جسام. أدرك أن الدخول في مرحلةٍ كهذه يتطلب شروطا لم تتوفر بعد على أرض الواقع، لكنني أصبحت على يقين تام من أن النتائج التي أسفرت عنها جولة المواجهة، بشقيها العسكري والسياسي، تمهد الطريق نحو مرحلة جديدة ومختلفة كليا، شريطة أن تُحسن الأطراف المختلفة استغلالها وتوظيفها، بطريقةٍ تقرّبها من تحقيق أهدافها المرجوة. في مقدمة هذه الشروط:
أولا: أن تشرع الفصائل الفلسطينية المختلفة في إعادة ترتيب بيتها من الداخل، وكذلك البيت الفلسطيني ككل. ولأن ما جرى في الأيام القليلة الماضية يؤكد على أن الشعب الفلسطيني بات أكثر اتحادا وتماسكا والتفافا على مشروع التحرير واستعادة الأرض المغتصبة من أي وقت مضى، فينبغي على الفصائل الفلسطينية أن ترتفع إلى مستوى اللحظة الراهنة، وأن تشرع على الفور في إجراء انتخابات تجدّد عبرها شرعية المؤسسات الفلسطينية، وتعيد بعدها تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، كي تصبح معبّرة عن كل مكونات الشعب الفلسطيني، في الضفة الغربية وفي قطاع غزة وفي الشتات، ولديها، في الوقت نفسه، جسور تواصل وتشاور مؤسّسي مع فلسطينيي 48. وعلى قياداتها المختلفة، حين تكتمل عملية إعادة تشكيل المنظمة في ثوبها الجديد، أن تشرع على الفور في الدخول في حوارٍ لتصفية ما تبقى من التزامات “أوسلو” والاتفاق على برنامج جديد ومتكامل للتحرير، يجمع بين وسائل النضال المشروعة، بمختلف أشكالها السياسية والعسكرية والمدنية، تتولى تنفيذه قيادة موحدة مسؤولة أمام المؤسّسات المنتخبة.
ثانيا: أن تدرك الدول العربية التي طبّعت علاقاتها حديثا مع إسرائيل خطأ ما أقدمت عليه، حين راحت تزايد على دول الطوق، وتوجّه طعنة غادرة في ظهر الشعب الفلسطيني، ومن ثم عليها أن تراجع سياساتها، وأن تعود إلى الالتفاف حول المبادرة العربية الموحّدة التي تبنتها قمة بيروت عام 2002، وهي مبادرة تفرض عليها عدم الشروع في تطبيع علاقتها مع إسرائيل إلا بعد انسحاب الأخيرة من كل الأراضي العربية المحتلة عام 1967، وقيام دولة فلسطينية مستقلة فعلا عاصمتها القدس الشرقية، وعودة اللاجئين الفلسطينيين وتعويضهم وفقا للقرار 194. وفي تقديري، ليس متوقعا أن يبدأ التحرّك في هذا الاتجاه قبل أن يتمكّن النظام الإقليمي العربي من وقف حالة الانهيار التي يمرّ بها حاليا، وقبل أن يستخلص دروس الحقبة الماضية، ويحاول الاستفادة من ظروف الانفتاح المواتية حاليا، غير أن إنهاء الحصار على دولة قطر، وانفتاح تركيا على مصر، وانفتاح السعودية على كل من إيران وسورية، كلها عوامل قد تمهد لمحاولة إعادة ترميم النظام العربي، بما يمكّنه من استعادة تماسكه وتوازنه. تجدر الإشارة هنا إلى أنه يُتوقع أن ترفع العقوبات الأميركية المفروضة على إيران قريبا، خصوصا أن عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق الخاص بالبرانامج النووي الموقّع عام 2015 باتت وشيكة، وهذا عامل مهم ينبغي أن تأخذه الدول العربية في اعتبارها، وهي تستعد لترتيب أوضاعها في المرحلة المقبلة.
ما جرى في الأيام القليلة الماضية يؤكّد أن الشعب الفلسطيني بات أكثر اتحادا وتماسكا والتفافا على مشروع التحرير
ثالثا: أن يدرك المجتمع الدولي، خصوصا القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، أن مرجعية “أوسلو” لم تعد صالحةً أساسا لحل الدولتين. وبالتالي، أظن أن الأوان قد آن للبحث عن مرجعيةٍ جديدةٍ تؤسّس لتسوية حقيقية تقوم على “حل الدولتين”. وفي تقديري، مبادرة السلام التي اعتمدتها قمة بيروت العربية لعام 2002 تصلح بديلا لهذه المرجعية، ولا ينقصها سوى وجود آلية، لديها القدرة على تزويدها بالأسنان التي تجعلها قابلة للتنفيذ على أرض الواقع. ولأن مجلس الأمن هو المؤسسة الدولية الوحيدة التي تملك من السلطات والصلاحيات ما يمكّنها من تحويل المبادرة إلى خطة حقيقية للتسوية، يمكن فرضها على كل الأطراف المعنية، أظن أنه بات على القوى العربية والإقليمية والدولية، الراغبة حقا في الوصول إلى تسوية للقضية الفلسطينية على أساس “حل الدولتين”، أن تتقدم بمشروع قرار إلى مجلس الأمن، وفقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، يتبنّى المبادرة العربية، ويحتوي، في الوقت نفسه، على آليةٍ تضمن فرض عقوبات على أي طرفٍ لا يلتزم بتطبيق قرار المجلس بعد صدوره.
قد يقول قائل إن الولايات المتحدة، حتى في ظل إدارة بايدن، لا تريد ولا تستطيع الدخول في مواجهةٍ مع إسرائيل، ومن ثم ستبذل كل ما في وسعها للحيلولة دون تهيئة هذه الشروط على أرض الواقع. وقد يكون هذا صحيحا. ولكن فصائل المقاومة الفلسطينية، في الوقت نفسه، باتت تملك زمام المبادرة، ومن ثم تستطيع، إذا أحسنت استخلاص النتائج المستفادة من دروس ما جرى إبّان المواجهة المسلحة أخيرا، أن تعيد تشكيل الواقع بما يساعد تدريجيا على الانتقال من استراتيجية الصمود إلى رسم استراتيجية متكاملة للتحرير.
د. حسن نافعة
العربي الجديد