كان كاتب هذه السطور أحد من تابعوا، ما وسع الجهد، تطورات الحرب بين حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة من جهة والاحتلال الإسرائيلي من جهة أخرى. وكان هذا الاحتلال البغيض هو البادئ في المواجهة، حين شرع بالتنكيل بأبناء حي الشيخ جرّاح في القدس، لاقتلاعهم من بيوت آبائهم وأجدادهم، والتنكيل بالمصلّين في المسجد الأقصى في العشر الأواخر من رمضان، وبالشبّان المقادسة الذين انتفضوا على الموجة العنصرية المتوحّشة التي تفشّت على أيدي مليشيات المستوطنين المسلحين، مدعومين بالشرطة والخيّالة وعناصر الشاباك. وقد انطلقت هذه الموجة الإجرامية بتعليماتٍ من رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، وبتنسيقٍ مع الأجهزة الأمنية ومجالس الغزاة المستوطنين، وبدون أدنى اكتراثٍ لردود فعل فلسطينية أو عربية أو إقليمية أو دولية. وفي هذه الأجواء المحمومة، وجّهت حركة حماس تحذيرها لسلطات الاحتلال من مغبّة المضي في ارتكاباتها الغاشمة، وقد قوبل هذا التحذير باستخفافٍ وغطرسة، حيث مضى الاحتلال في إجراءاته المشينة تلك. والتذكير بهذه الوقائع الساخنة التي ما زالت طريةً في الأذهان هو لغرض تصحيح الفِرية التي يطلقها الاحتلال، ويتجاوب معه إعلام عربي متصهين، بترديد مزاعمه، أن “حماس” كانت البادئة في المواجهة. علماً أن تاريخ الاحتلال نفسه منذ السابع من يونيو/ حزيران 1967 هو سابقٌ بعشرين عاما على نشأة حركة حماس. وقد كان لا بد من وقف غطرسة العدو، وتوجيه تلك الصليات الصاروخية، لتذكيره بأنه ليس وحده في الميدان، وأن للأرض المحتلة ولفلسطين من نهرها (الأردن) إلى بحرها (المتوسط) من يدافع عنها ويحمي حماها.
ولم يلُح آنذاك أو بعد وقف إطلاق النار أن المواجهة تمت لحساب طرفٍ ثالث هو إيران، فالذي اختار المواجهة والتصعيد هو الاحتلال الإسرائيلي، وهو بالمناسبة ماضٍ في خياره بما يجعل تجدّد المواجهات بأشكال مختلفة أمراً محتملا، إلا إذا كان الاحتلال نفسُه يودّ خدمة طهران، ما دامت الأخيرة هي المستفيدة، كما تروّج جوقة الاحتلال هنا وهناك، بلغاتٍ مختلفة، منها العربية .. أما إذا استفادت طهران أو غيرها عَرَضاً من هذه التطورات، فذلك أمر يتكرّر حدوثُه في تاريخ الصراعات والحروب، فقد استفادت طهران من الغزوين، السوفييتي ثم الأميركي لأفغانسان، وكذلك من الغزو الأميركي للعراق، كما استفادت روسيا وإيران من تطورات الانتفاضة السورية، ويزخر التاريخ بنماذج بلا حصر لها لاستفادة أطرافٍ ثالثةٍ من نشوب الصراعات.
ليس معلوما حجم الدعم الإيراني التقني والتسليحي لـ”حماس”، غير أنه معلوم أن الحركة تعتمد على ذاتها بتطوير أسلحتها، وتحسين منظومتها الدفاعية
وما تقدّم لا ينفي أنّ ثمّة علاقة بين حركة حماس وإيران، وهي علاقةٌ متموّجةٌ شهدت انحسارا في ذروة موجة الربيع العربي، إذ وقفت طهران موقف العداء السافر لربيع شعوبنا، ذلك أن هذه الحركة وجدت في طهران داعماً شبه وحيد لها، في وقت وجدت فيه أقلّ الدعم من العالم العربي والإسلامي، وهو ما وضعها في إشكالية، كون إيران هي بالفعل ذات نهج توسّعي في المشرق العربي، وذات رسالة طائفية مذهبية، وإنها لا تتردّد في تقويض مناعة الدول والمجتمعات، كما حدث ويحدث في العراق ولبنان وسورية واليمن، وكما حاولت إيران وتحاول في دول أخرى، خدمة لمصالحها في السيطرة على مقدّرات تلك البلدان. وقد سعت “حماس” للنأي بنفسها عن النهج الإيراني، وما يثيره من ردود فعل واسعة وساخطة، وذلك بحصر علاقتها بطهران في مجال التصدّي للاحتلال الإسرائيلي على أرض فلسطين حصراً وليس خارجها. ويصعب القول إن كانت قد نجحت في ذلك أو أخفقت، غير أنها، وللإنصاف، استخدمت نهجا حذراً، وعملت على تظهير صورتها حركة مقاومة مستقلة (خلافاً لحال حركة الجهاد الإسلامي المتماهية مع إيران). ويستذكر المرء أن حركة حماس طوّقت منظماتٍ وحركاتٍ خرجت في غزّة بتمويل إيراني، وهدفت إلى تكوين مدّ طائفي، أي تشييع المسلمين السنة، وتنصيب طهران مرجعية دينية وسياسية. وقد قمعت “حماس” هذه الحركات، وأبقت على حركة الجهاد الإسلامي، مع تشديد القبضة على تحرّكاتها السياسية والعسكرية، بما في ذلك محاولات الانفراد بإشعال مواجهاتٍ مع الاحتلال بغير تنسيق أو قرار مشترك. تجدر الإشارة هنا إلى أن المواجهة أخيرا خيضت من فصائل المقاومة مجتمعة في قطاع غزّة، ولم تنفرد “حماس” في المواجهة، غير أن وزنها العسكري يبقى الأكبر.
ملايين العرب والمسلمين وجدوا أنفسهم ضحايا لأطماع إيران التوسعية وجموحها المذهبي وتطرّفها الطائفي
وليس معلوما حجم الدعم الإيراني التقني والتسليحي لـ”حماس”، غير أنه معلوم أن الحركة تعتمد على ذاتها بتطوير أسلحتها، وتحسين منظومتها الدفاعية، كما فصائل المقاومة الأخرى، غير أنه يتعين عليها إبداء حذر أكبر في نسج علاقتها مع طهران، وفي تعبيرها عن هذه العلاقة، فملايين العرب والمسلمين وجدوا أنفسهم ضحايا لأطماع إيران التوسعية وجموحها المذهبي وتطرّفها الطائفي. وعلى “حماس” مراعاة حساسية هؤلاء، بل الوقوف معهم، ومع الحق في إقامة حياة وطنية مستقلة، بعيدا عن التدخلات الإيرانية الفظّة وأي تدخلاتٍ أخرى. بل تقتضي الحسابات الإستراتيجية الحذر الشديد من النهج الإيراني القائم على الهيمنة والتوسّع وازدراء خيارات الشعوب، بما في ذلك بالطبع الشعب الإيراني الذي يتعرّض لقمع ساحق ورهيب منذ عقود بأضعاف ما كان عليه الحال في عهد الشاه. ولعل من حق “حماس” ألّا ترفض دعما غير مشروط من أي طرف، على ألّا تذهب بعيدا في البراغماتية، وألّا تقع في محذور عزل قضية فلسطين عن قضايا الشعوب الشقيقة والصديقة، أو أن تجعل هذه القضية في تضارب مع القضايا الأخرى، فهذا محذورٌ على جانبٍ من الخطورة، إذ يسوّغ الأخذ بهذا المنطق البراغماتي “الأناني” للآخرين الأخذ بمنطق مماثل، ألم تستند موجة التطبيع العربي الساخن، في إحدى أبرز ذرائعها، إلى التلويح بالخطر الإيراني، والأهمية الاستراتيجية والمصيرية لمواجهته، بالاستعانة بأيٍّ أحد لمواجهة هذا الخطر، بما في ذلك دولة الاحتلال الإسرائيلي؟
الخلاصة أن حركة حماس تُحسن صنعاً، إذ تقلّص علاقتها بطهران بالتدريج وباطراد، ما دامت الأخيرة على نهجها إزاء منطقة المشرق العربي، وأن يبقى قرار الحرب والسلم وطنيا وداخلياً، وبعيداً كلياً عن إيران، مع توسيع علاقاتها السياسية العربية وتعزيزها، ابتداء من مصر والأردن، وأن تمضي في سياسة الاعتماد الذاتي وتطوير القدرات الخاصة ما أمكنها ذلك، وأن تسير على درب تمتين الوحدة والاعتراف بالسلطة الوطنية في رام الله، كون السلطة هي الطرف المعترف به عربيا ودوليا. وأيا كانت الملاحظات على أداء السلطة، فما زال وجودها يرمز إلى الكينونة الوطنية، و”حماس” بحاجة للسلطة، كي تسعى هذه الأخيرة إلى نزع التصنيفين، الأميركي والأوروبي، بالإرهاب عن الحركة، كما أن السلطة (والشعب) بحاجة إلى “حماس” احتياطا مسلحا ومقاوما للجم العدوانية الإسرائيلية وإنهائها. فيما يبقى تحدّي تظهير الهوية الوطنية للحركة، والتركيز عليه والاحتكام إليه، بدلاً من الهوية الدينية التي لا تُخاطب الجميع، وتثير توجّس شركاء في الوطن والمصير ومخاوفهم.
محمود الريماوي
العربي الجديد