في الوقت الذي انشغل العالم بالتطورات الحادثة في فلسطين وما أعقبها من اشتباك مسلح لأحد عشر يوماً، كان من الموكد أن تدخل الجمهورية الإسلامية على الخط، وليس مستغرباً ولا جديداً مساهمتها في تزويد الفريق الفلسطيني في غزة بالسلاح، لأن ذلك معلَن على لسان قيادات من «حماس» على الملأ… اللافت تصريحات ما بعد وقف إطلاق النار خصوصاً تلك المنسوبة إلى قائد «فيلق القدس» إسماعيل قاآني، التي يقول فيها: «على الفلسطينيين أن يستعدوا لقيادة بلادهم بعد زوال إسرائيل»، وأنهم «كانوا قادرين على تدمير منشآت إسرائيلية ولم يفعلوا، لأن الفلسطينيين لن يحتاجوا إلى وقت لاستخدام هذه المنشآت»! التصريحات كثيرة ولكنها تصبُّ في هذا التصور الغريب الذي يهدف إلى «إغراق الساحة بسراب من المخادعة والوهم»، ربما ترفع آمال البعض المغرق في التمنيات، ولكنها في الوقت نفسه تبتعد عن القراءة الواقعية التي يتطلبها فهم أي صراع بشري.
قاآني ومدرسته هي ما لدينا اليوم في طهران من «الجهل المقدس»، معطوفةً على تسريبات السيد جواد ظريف، الذي ينظر بازدراء إلى النظام الذي يعمل معه، فـ«الدولة العميقة» التي تروج للجهل المقدس مبنيّة على تحالف رجال الدين «أو بعضهم» مع العسكر، وعسكر طهران اليوم ليسوا من المدرسة العسكرية الكلاسيكية التي تُنتجها عادةً المؤسسات التدريبية التكاملية، بل في أغلبهم قادة «ميليشيات» تعلموا العسكرية في الميدان وترقيتهم تخضع لأيهم أكثر راديكالية وليس كفاءة! لا أقلل من فاعليتهم، ولكن أشك في قدرتهم على فرز الواقع عن التصور والآيديولوجيا، ويمدّنا التاريخ الحديث والمعاصر بمثل تلك القراءات الخاطئة التي تقود إلى التهلكة. هذه القراءة سوف تظل معنا، فليس من المأمول ولا من الرجاحة التصور أن «شيئاً ما سوف يختلف» بعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية في الثامن عشر من هذا الشهر. قلتُ «انتخابات» تجاوزاً للمصطلح، فالحقيقة أن ما يحدث هي خلطة من «الاختيار والانتخاب»، فالدولة العميقة هي التي تقرر وهي التي سوف تستمر في تطبيق تصوراتها للداخل الإيراني وللجوار. فإلى أين تأخذنا الاحتمالات؟
العلاقات مع الولايات المتحدة: لا يلتبس على أحد أن إدارة السيد جو بايدن تسير من خلال معادلة «الاتفاق النووي أولاً» وهذا في الغالب ينسجم مع ما تعرفه طهران. الإدارة الأميركية تعترف بمخاطر الصواريخ الباليستية والتدخل الإيراني في الجوار، ولكنها في نفس الوقت مقتنعة بأن التفاوض على الملفين الأخيرين «الصواريخ، والتدخل» مع إيران غير نووية حولهما أسهل من التفاوض مع إيران نووية! ذلك ما هو معلن حتى الآن، وإيران تعرف ذلك وتتعامل معه تكتيكياً وفي نفس الوقت تصعّد من اشتباكها «من خلال أذرعها» في الساحات المختلفة، وليست حرب غزة الأخيرة استثناءً.
الوجود في الجوار: تبيَّن بعد تجربة أكثر من عقدين من سياسة «الجوار المتنمر» والتي مكّنت قوى تابعة لإيران من التغلغل في الجوار «سوريا، العراق، لبنان، اليمن»، أنها يمكن تؤثر وتُقلق ولكنها لا تستطيع أن تحكم، أي لا يمكنها «فرض نظام ولاية الفقيه» كما تصورتها في «تصدير الثورة»، بل إن النتيجة النهائية لذلك التدخل «على درجاته المختلفة» قد فجّر الدولة المتدخَّل فيها من الداخل؛ سوريا لم تعد سلطة الدولة باسطة على كل أراضيها، ولبنان غارق في انهيار اقتصادي مخيف، وكذلك العراق واليمن في أزمة، وتبقى طهران ملزمة بتعويم أذرعها مالياً على حساب الشعب الإيراني. في المقابل بعض تجاربها تفشل، ففي العراق مثلاً هناك روح مقاومة، وتبين للقوى العراقية التي ترعاها طهران أنها إما أن تسير في خطها وإما أن تفكر في تكوين جماعات بديلة! ما تستطيع طهران أن تبرر لنفسها في عدم القدرة على السيطرة القول إن «بلداناً ضعيفة في الجوار خير من بلدان متعافية» قد تنقلب ضدنا! ذلك هو البديل الآخر. فهي تستطيع أن تعطل وربما تزعج، ولكن لا تستطيع أن تتحكم، فهناك شعور وطني عراقي وسوري ولبناني ويمني، لا يقبل على المدى الطويل النموذج الإيراني المهيمن مهما تحلى بشعارات تبدو من بعيد لامعة.
الاستقرار الداخلي: قراءة ما كُتب في طهران حول التصفيات للانتخابات القادمة وما هو مكرر من أحداث أن هناك قلقاً يتسع في شرائح إيرانية داخلية تدل على الانتقال «من التململ إلى السخط» من الأوضاع السائدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتفجرت الانتقادات بعد تصفيات المرشحين لسباق الرئاسة المقبلة وجعل العالم يعرف النتائج مسبقاً. من المستبعدين مَن قدّم خدمات كبيرة للنظام وفي كل معاركه، إلى درجة تنبؤ أحد وزراء الثقافة السابقين على موقعه بانتهاء الجمهورية، فلم يعد الولاء للنظام هو المطلوب، بل أصبح الولاء للمجموعة الصغيرة الحاكمة، قد تأكد ذلك في التوجيه الذي نزل من القيادة لتجنب الخطوط الحمراء في النقاشات الانتخابية «ذات المدى المحدود أصلاً في الزمن» من الاقتراب من نقد «الولاية والولي»، مذكّرين بأن قراراته مستمَدّة من قوى مأذونة لا رادّ لها! الاحتمال أن يتصاعد التباين الحاصل ليتحول إلى خلاف عميق إبان الحملة الانتخابية وبعدها، ربما من جديد يذكّرنا بالثورة الخضراء التي حدثت بعد انتخاب محمود نجاد للمرة الثانية في يونيو «حزيران» عام 2009، والتي سُميت «الربيع الفارسي»!
إصلاح الخلل: أمام هذه العوامل المتغيرة لا يبدو أن هناك احتمالاً لإصلاح الاعوجاج الاستراتيجي الحاصل لدى النظام الإيراني، والذي قد يزداد ضراوة من خلال بيع الوهم على قطاعات واسعة في الشرق الأوسط وإحكام قبضة المتشددين، مع تراجع في الرغبة الأميركية للانخراط في مشروع له معنى في المناطق الساخنة، وتتقدم قوى كبرى ومتوسطة شهيتها مفتوحة للغنائم. أمام هذه السناريو لم يعد هناك إلا ترميم البيت العربي من القادرين، ويبدو أن هناك تباشير تشير إلى ذلك من أجل وقف تسرب الخلل من جهة، وصدّه فيما يمكن صدّه من جهة أخرى.
آخر الكلام: وجود نفوذ وصاية لـ«الحرس الثوري» الإيراني في غزة يعني تهديداً مباشراً للأمن القومي المصري وقراءة قاصرة لنوع التحالفات من قبل «حماس»، إن تعاظم سوف يتوجه إلى الجوار، كما يفعل «حزب الله» في اليمن!
محمد الرميحي
الشرق الاوسط