تمرّ علينا في شهر حزيران/يونيو الجاري الذكرى الأربعون لتدمير المفاعل النووي العراقي، الذي تعرض لضربة إسرائيلية في السابع من يونيو 1981، وإذا أردنا تتبع البرنامج النووي العراقي فبإمكاننا البدء من تشكيل لجنة الطاقة الذرية العراقية عام 1956، وقد ارتبط رئيسها بمكتب رئيس الوزراء حينذاك، وبموجب مبادرة (الذرة من أجل السـلام) التي أعلنها الرئيس الأمريكي أيزنهاور، أهدت لجنة الطاقة الذرية الأمريكية، مكتبة تضم العديد من المنشورات العلمية المعلنة والصادرة عنها، بما فيها بعض تقارير مشروع (منهاتن) الذي صنعت فيه الولايات المتحدة قنبلتي هيروشيما وناغازاكي.
كما عملت الإدارة الأمريكية على إهداء العراق مفاعلا نوويا صغيرا للأبحاث، بقدرة 5 ميغاوات، وتم شحن المفاعل من الولايات المتحدة الأمريكية إلى العراق، إلا أن حركة 14 تموز/يوليو 1958 التي أطاحت الحكم الملكي في العراق غيرت وجهة النظر الأمريكية تجاه العراق، الذي اعتبرته بلدا غير مستقر، فأمرت الباخرة الحاملة للمفاعل بتغيير وجهتها لتذهب إلى إيران الشاه، وليسلم المفاعل النووي التجريبي لجامعة طهران .بعد 1958 انفتح العراق على الاتحاد السوفييتي وتم الاتفاق على تجهيز وبناء مفاعل نووي للأبحاث والدراسات، ومنشأة لإنتاج العلاجات الطبية الإشعاعية، إلا أن تنفيذ الاتفاقات العراقية السوفييتية استغرق سنوات من التفاوض والتحضير، حتى تم تنصيب المفاعل الروسي ومباني الخدمات الخاصة به عام 1964، كما تم تأسيس مركز البحوث النووية في موقع التويثة (17 كم جنوب شرق العاصمة بغداد قرب سلمان باك) وفي عام 1968 تم تشغيل المفاعل النووي الذي جهزه الاتحاد السوفييتي، وكان صغيرا بقدرة 2 ميغاوات، وعرف باسم مفاعل 14 تموز.
في عام 1969 وقّع العراق على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية (NPT) ثم تم تأسيس منظمة الطاقة الذرية عام 1974، حيث صدر قانون منظمة الطاقة الذرية العراقية، الذي ربطها بمجلس قيادة الثورة، وترأسها صدام حسين نائب رئيس مجلس قيادة الثورة حينذاك، على أن يديرها فعليا نائب رئيس المنظمة، أما برامج عملها فتدار من لجنة الطاقة الذرية.
تحرك العراق لتطوير قدراته النووية بعد منتصف السبعينيات، نتيجة الثروة النفطية الهائلة، التي توفرت له بعد تأميم النفط وارتفاع أسعار البترول العالمية، وتحركت الحكومة العراقية على فرنسا لتجهيز العراق بالتقنيات النووية، وقد ساعدت العلاقة المميزة بين رئيس الوزراء جاك شيراك، ونائب رئيس الجمهورية العراقي صدام حسين في تلك الحقبة على إنجاح وتسهيل الاتفاق. تم توقيع العقد الفرنسي في تشرين الثاني/نوفمبر 1976، حيث وقع العراق عقدا مع تجمع من الشركات الفرنسية، وبعلم الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لتجهيز وإنشاء مفاعل نووي للأغراض السلمية، كما حصل العراق من إيطاليا على مفاعل أبحاث صغير عرف باسم مفاعل 30 تموز في السنة نفسها 1976.
إسرائيل كانت تعلم وبدقة أن المشروع النووي العراقي سلمي 100%، لكنها كانت تريد إيقاف التطور العلمي في العراق، لذلك هاجمت المشروع منذ اليوم الأول، إذ تعرض البرنامج النووي العراقي السلمي إلى عدة ضربات، نفذها الموساد الإسرائيلي، ففي نيسان/إبريل 1979 تم تفجير قلب مفاعل أوزيراك في ميناء سين سورمير في فرنسا. كما قام جهاز الموساد باغتيال العديد من المهندسين والباحثين العراقيين العاملين في البرنامج النووي العراقي.
لكن الضربة القاضية تمت في السابع من يونيو 1981، حيث نفذ سرب طائرات إسرائيلية غارة مباغتة على بغداد، وكان العراق يخوض حربا ضد إيران، ما جعل تركيز قواته وراداراته على الجهة الشرقية من الحدود، فجاءت الغارة من الجنوب الغربي مباغتة، لتمطر مفاعل تموز (أوزيراك حسب التسمية الفرنسية) بوابل من الصواريخ المحورة، والمصممة خصيصا لتنفيذ الهجوم، ما أنتج تدميرا هائلا في المفاعل الذي كان في عهدة الجانب الفرنسي، وفي طور الاستلام والتسليم، حيث كان جاهزا للتشغيل التجريبي، كما لم تسلم البنايات الخدمية المجاورة للمفاعل من أضرار القصف العنيف.
إسرائيل كانت تعلم وبدقة أن المشروع النووي العراقي سلمي 100%، لكنها كانت تريد إيقاف التطور العلمي في العراق
في البدء كان اهتمام القيادة العراقية بشكل عام، وصدام حسين بشكل خاص بإحداث تطوير ونهضة في البلد، وقد انعكس ذلك في خطط التنمية التي عملت عليها الحكومة العراقية في عقد السبعينيات، ومن هنا جاء الاهتمام بالتقنيات النووية، وتطوير مركز الأبحاث النووية، ليتحول إلى منظمة الطاقة الذرية العراقية. بعد قصف إسرائيل لمفاعل تموز في العراق، أصر صدام حسين على امتلاك مشروع نووي عسكري، ليحصل على سلاح نووي يوفر له قوة ردع تمكنه من الوقوف بوجه إسرائيل أولا، وليطرح نفسه قائدا للأمة العربية لاحقا، لأنه كان مهووسا بهذه المسألة، لذلك ابتدأ البرنامج العسكري النووي العراقي عام 1983 باستخدام التقنيات التي استخدمتها الولايات المتحدة في مشروع (مانهاتن).
استمر العمل وأحرز العراق بعض التقدم، في مطلع 1989 ونتيجة التركيز على الجانب العسكري من المشروع النووي العراقي، تم سلخ المجاميع الثانية والثالثة والرابعة من منظمة الطاقة الذرية، وإلحاقها بوزارة الصناعة والتصنيع العسكري تحت مسمى (مشروع البتروكيمياويات 3). وقد ضم كل المنشآت السرية التي عملت على تخصيب اليورانيوم، للوصول بعد ذلك لتصنيع قنبلة ذرية، يمكن أن تحمل على رؤوس ذرية في الصواريخ، أو يتم تصنيع قنبلة ذرية تلقى بالإسقاط الحر من الطائرات، لكن غزو صدام للكويت أوقف الأمر، وقامت قوات التحالف بقصف كل مواقع مشاريع البرنامج النووي العراقي، ومن ثم أكمل مفتشو اللجنة الدولية للتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل تدمير كل ما تبقى من هذا المشروع.
كان كل الجزء العسكري من البرنامج النووي العراقي في مواقع سرية موزعة في مختلف مدن العراق، كالعاصمة بغداد وضواحيها، ومحافظة نينوى، ومحافظة الأنبار وبعض المدن الأخرى، بينما كان الموقع المعلن والمفتوح لتفتيش وإشراف لجنة الطاقة الذرية الدولية، هو موقع منظمة الطاقة الذرية العراقية في التويثة، الذي كان يحوي نشاطات الأبحاث الذرية السلمية في الطب والزراعة والبايولوجي.
جانب آخر من قصة المفاعل النووي العراقي هو «الكعكة الصفراء» التي كُتب الكثير عنها في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وتم توصيف هذه المادة بأنها يورانيوم، وهذا كلام غير دقيق علميا، فـ»الكعكة الصفراء» هي مسحوق أصفر اللون، تركيبته الكيماوية هي أول أوكسيد اليورانيوم.. والمخزون العراقي من هذه المادة لم يشتره العراق، أو يستورده من النيجر، كما أشيع في الكثير من المواقع الإعلامية، والإشارة إلى أن عملية الاستيراد تمت بسرية في التسعينيات هي محض تصريحات أطلقتها دوائر أمريكية في إدارة الرئيس جورج بوش الابن بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 لأسباب سياسية، غايتها التصعيد السياسي ضد نظام صدام، واتهامه بأنه يحاول إعادة امتلاك ترسانة أسلحة دمار شامل عبر التهرب من رقابة لجان التفتيش الدولية .
علميا وعمليا تبدأ عملية الحصول على اليورانيوم لأغراض التخصيب من ثاني أوكسيد اليورانيوم الموجود كمادة خام صخرية في صحراء عكاشات في غرب العراق، تتم إزالة ذرة أوكسجين من المركب بعملية شبيهة بصناعة مسحوق الحليب المجفف، وهذا ما أنتجه العراق في أحد مشاريع برنامجه النووي السري، في معمل الجزيرة في منطقة بادوش قرب الموصل، حيث أنتجت مئات الأطنان من «الكعكة الصفراء» علما أن عملية إنتاج هذه المادة ليست معقدة، ولا تحتاج تكنولوجيا متطورة، وقد نفذها العراق بقدرات ذاتية، مستعينا بمخططات شركة برازيلية مختصة بهذا الشأن هي شركة «ناترون» في عام 1988.
وقد أنتج العراق مئات الأطنان من»الكعكة الصفراء» وخزنها لتستعمل لاحقا في الحصول على اليورانيوم المخصب، وقد تحفظت لجان التفتيش الدولية على هذا الخزين، وراقبت عملية خزنه في موقع التويثة قرب سلمان باك، في عقد التسعينيات، وابتدأت احتمالية نهب «الكعكة الصفراء» أو تسربها نتيجة الفوضى التي حصلت بعد إطاحة نظام صدام، ونهب الدوائر الحكومية، أو الفساد الذي نخر مؤسسات العراق بعد 2003 .
عندما اجتاح الاحتلال الأمريكي العراق، وفتّش خبراء أمريكيون المنشآت النووية بحثاً عن أسلحة الدمار الشامل، وجدوا خزين «الكعكة الصفراء» الذي يعلم بوجوده مفتشو الأمم المتحدة أصلا، وتحفظوا على هذه المادة الخطرة، وبعد تشكيل حكومة إبراهيم الجعفري، ثم حكومة المالكي الأولى عام 2006 ابتدأت مفاوضات التخلص من هذا الخزين الخطر، لأنه يمثل قنبلة موقوتة قد تسبب كارثة بيئية في أي لحظة، إذا ما تسربت أو وقعت في أيدي الإرهابيين، كما أن هذه المادة لا تستعمل إلا لإنتاج السلاح النووي، ما يعني أن العراق لن يستعمل هذه المادة بأي حال من الأحوال، وقد تولت وزارة العلوم والتكنولوجيا في عهد الوزير رائد فهمي التخلص من الخزين العراقي من»الكعكة الصفراء» الذي تم نقله بواسطة شركات أمريكية إلى كندا بناء على العقد المبرم بين الحكومتين العراقية والكندية لتنتهي هذه القصة.