الرئيس الإيراني الثامن وتحديات المرحلة

الرئيس الإيراني الثامن وتحديات المرحلة

لم يستغرق إعلان نتائج الانتخابات الإيرانية طويلا بعد انتهاء التصويت مساء الجمعة الماضية، برغم وجود منافسة بين المترشحين الأربعة الرئيسيين. فجاء إعلان فوز السيد إبراهيم رئيسي، رئيس السلطة القضائية، بالمنصب ليكون الرئيس الثامن طبقا للتوقعات التي سبقت التصويت. وشملت الانتخابات كذلك اختيار أعضاء الدورة السادسة للمجالس الإسلامية البلدية والقروية والانتخابات التكميلية لمجلس خبراء القيادة.
والسيد إبراهيم رئيسي محسوب على التيار الأصولي، وهو مدعوم من الأطراف المحسوبة على هذا الاتجاه ومنها الحرس الثوري وجهاز القضاء. ومن المؤكد أن لدى الرئيس سلطات واسعة وتأثيرا على مسارات البلاد، السياسية والاقتصادية بشكل أساسي، ولكن هذه السلطة ليست مطلقة. فإيران، كأي بلد كبير آخر، تحكمه سلطات ومؤسسات تشكل بمجموعها دعامات الدولة وتشكل توجهاتها الفكرية والسياسية. ومن يفتح ملفات العقود الأربعة الماضية التي أعقبت انتصار الثورة في 1979 يجد نسقا واضحا سواء على مستوى السياسات الداخلية ام العلاقات الخارجية. فالحصار الذي فرض على إيران منذ الشهور الاولى لثورتها تواصل بشكل شبه محكم حتى اليوم، مع حالات من التخفيف والتشديد التي لم تؤثر على السياق العام. هذا الحصار (او العقوبات) استمر خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) وخلال رئاسة المرحوم هاشمي رفسنجاني بعد ذلك. وبرغم توصيف الرؤساء بين «أصولي محافظ» و «إصلاحي» تواصلت العقوبات في فترة رئاسة السيد محمد خاتمي (الإصلاحي) ثم أحمدي نجاح (المحافظ) وفي السنوات الثماني الاخيرة من رئاسة الشيخ حسن روحاني (الإصلاحي). فلم يُتح الغرب لاقتصاد إيران فرصة للتنفس الضروري للتوسع والازدهار. هذا الحصار غير الإنساني كانت له نتائج مدمرة، اقتصادية وسياسية وإنسانية، ولكن كان له كذلك بعض النتائج الإيجابية اهمها دفع إيران للاعتماد على النفس وانتهاج مسار لتحقيق الاكتفاء الذاتي. وفي السنوات الاخيرة طرح القادة الإيرانيون مصطلح «الاقتصاد المقاوم» لتوصيف قدرة الجمهورية الإسلامية على التعايش مع هذا الحصار وتحدّيه وشق طريق التنمية، خصوصا بعد أن كثّف دونالد ترامب العقوبات الأمريكية الصارمة.
ثمة ملاحظات يجدر طرحها هنا لاستكمال المشهد الإيراني الراهن:
الأولى: أن الانتخابات الرئاسية شهدت تنافسا محموما بين أربعة مرشحين اقوياء. فبالاضافة للسيد إبراهيم رئيسي كان هناك ثلاثة آخرون هم: أمين مجلس تشخيص مصلحة النظام محسن رضائي، ونائب رئيس مجلس الشورى أمير حسين قاضي زاده هاشمي، ومحافظ البنك المركزي عبد الناصر همتي. ولكل منهم خبراته وقدراته السياسية.

سياسات إيران الخارجية بقيت شبه ثابتة منذ أربعين عاما ولا يتوقع تغيرها بتغير شخص الرئيس

الثانية: التزام النظام الإسلامي الإيراني بالمبدأ الانتخابي لإدارة البلاد. ففي أحلك الظروف (كالحرب والحصار) أجريت الانتخابات في مواعيدها بدون تأجيل. وكما هو معتاد في الدول «الديمقراطية» فمن المؤكد أن هناك «مؤسسة حاكمة» ليست محصورة بالمؤسسات المنتخبة. فالمؤسسة العسكرية والاستخبارية تمارس دورا كبيرا في توجيه سياسات البلاد. وفي الأعم الأغلب تسعى هذه المؤسسات للتناغم مع المؤسسات المنتخبة وعدم التصادم معها. ويخطئ من يعتقد أن الحكومات المنتخبة في الأنظمة البرلمانية تمتلك صلاحيات مطلقة لتوجيه البلاد. فالبلدان تُحكم عادة بالطبقة الإدارية الوسطى ضمن نظام الخدمة المدنية، وهي عناصر لا تتغير بتغير الوزراء نتيجة الانتخابات. ولذلك كثيرا ما يتأجل تشكيل الحكومات شهورا ولكن البلد لا يتوقف أبدا لأن الآلة التي تحركه ثابتة وغير خاضعة للانتخابات البرلمانية. وإيران هي الأخرى محكومة بمؤسسات ثابتة وأخرى منتخبة، ولكل منها دورها وإطارها وصلاحياتها. فمجلس الأمن القومي في أي بلد يضم بالإضافة لرؤساء الوزراء، رؤساء الجيش والشرطة والامن. ويتم إقرار السياسات العامة للبلد بالتوافق بين هذه الأطراف جميعا. صحيح أن الحرس الثوري الإيراني له دور كبير، ولكن هذا الدور محكوم كذلك بإرادة الأطراف المنتخبة.
الثالثة: بعد أربعة عقود اصبحت إيران دولة مؤسسات، وإن كان اعداؤها يشككون في ذلك، ويعتبرون أن الولي الفقيه هو السلطة الأولى والاخيرة في البلاد. من المؤكد أن لدى الولي الفقيه سلطات كبرى، ولكنه ليس معنيا بالإدارة اليومية لشؤون البلاد، ولا بد من الإشارة الى أن الولي الفقيه يخضع (من الناحية النظرية على الأقل) للانتخاب من قبل أعضاء مجلس الخبراء المنتخبين. وليس من مصلحة الجمهورية الإسلامية أن تكون دولة الرجل الواحد، ولذلك عمدت لتقوية الممارسة الانتخابية. وتدخل الفقهاء الكبار في الحوزة العلمية بمدينة قم المقدسة لحث المواطنين على المشاركة، واعتبرها بعضهم «واجبة» من الناحية الشرعية. وكرر آية الله السيد علي خامنئي حثه على المشاركة. إن دولة كبرى بحجم إيران لا يمكن أن تحكم بالديكتاتورية لأنها حينئذ ستكون مكشوفة أمام أعدائها، وسيتعرض نظامها السياسي لتحديات داخلية أوسع. وقد اعتمد قادتها على الجماهير لدعم ثورتهم منذ البداية، ثم للدفاع عن الجمهورية خلال الحرب، ودعم النظام أمام تهديدات الخارج. لذلك يحرص قادتها على إقامة دولة المؤسسات المحكومة بالقانون. ومن يتابع هذا المسار يكتشف حقائق تغيب عن الكثيرين: فمجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) يتمتع بصلاحيات كبيرة لا تتوفر للبرلمانات الغربية، فهو يستطيع رفض الوزراء الذين يجب على الرئيس عرضهم عليه، ويستطيع عرقلة برنامج عمل الحكومة.
الرابعة: أن إيران، شأنها شأن الدول الإقليمية الأخرى، تسعى لتوسيع نفوذها الإقليمي.
الخامسة: أن الجمهورية الإسلامية تدفع ثمن عدد من الثوابت التي ترتكز عليها، ومنها استقلال القرار، والسعي لتحقيق الاكتفاء الذاتي، ورفض الاعتراف بالكيان الإسرائيلي، ودعم الشعب الفلسطيني ومنظماته المقاومة.
هذه الحقائق تؤكد بعض الأمور: أولها أن السياسات الإيرانية لا تخضع بشكل مباشر لشخص الرئيس المنتخب، سواء كان محافظا ام إصلاحيا. ثانيها: أن سياسات إيران الخارجية بقيت شبه ثابتة منذ أربعين عاما ولا يتوقع تغيرها بتغير شخص الرئيس. فاذا كان الرئيس روحاني ووزير خارجيته، محمد جواد ظريف، قد عبرا عن رغبتهما في توسيع العلاقات مع دول الجوار، فان الرئيس المنتخب (السيد إبراهيم رئيسي) لن يتراجع عن ذلك، وسيكرر دعوته للحوار الإقليمي الذي تعتبره إيران شرطا لتجنيب المنطقة شرور التدخل الخارجي الذي يؤدي الى عسكرة الخليج وتعقيد أموره وعلاقات دوله. وستقدم علاقاتها الوثيقة مع الدول الإسلامية الكبرى مثل تركيا وباكستان مثالا لذلك التحسن، ولا تقل علاقاتها مع سلطنة عمان وقطر أهمية في هذا الجانب، وستسعى لطمانة الجيران ومد الجسور مع من يرغب منها. ثالثها: أن طهران لن تتراجع عن سياساتها الخارجية، ولكنها ستواصل مطالبتها بإلغاء الحصار والحظر، وقد يساهم وجود الرئيس بايدن في تخفيف ذلك الحظر بشكل ملموس. فرفع الحظر أولوية لدى الجمهورية الإسلامية التي تعاني من أوضاع اقتصادية صعبة وتعجز أحيانا عن الوفاء بالتزاماتها الدولية كما حدث مؤخرا مع الأمم المتحدة عندما تأخرت عن دفع التزاماتها المالية نتيجة الحصار المصرفي عليها. رابعها: أن إيران ستصر على الاحتفاظ بهويتها الدينية والسياسية والتزامها الأيديولوجي لعلمها بأن أي تراجع عن مشروع «الإسلام السياسي» سيؤدي تدريجيا لإلغاء مبررات وجود نظامها الإسلامي. هذه الأطر ستظل ثابتة في المستقبل المنظور على الأقل، ولن يحيد الرئيس المنتخب عنها لانها تمثل الأساس الذي تأسست عليه الجمهورية الإسلامية في 1979. ولن يختلف إبراهيم رئيسي «المحافظ» في السياسات المحورية للجمهورية الإسلامية عن حسن روحاني «الإصلاحي».