لعبت الولايات المتحدة دورا كبيرا في تحول الصين من مجتمع زراعي متخلف، تتفشى فيه المجاعات إلى دولة صناعية كبرى خلال نصف قرن فقط. لم يكن تدخل أبناء العام سام ذا هدف انساني بحت، وإنما يستهدف إبعاد الصين عن الغرق في مستنقع الحكم الشيوعي، الذي صدّره الاتحاد السوفييتي للعالم.
حاول هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية الأسبق، توظيف الحرب، التي نشبت على الحدود بين الصين والاتحاد السوفييتي نهاية الستينيات من القرن الماضي، في اختراق الكيان الشيوعي الأكبر، والعمل على دفعه نحو التحول التدريجي لدفة المجتمعات الغربية والديمقراطية. آمن كيسنجر بسياسة «الاحتواء» لأن ترك الصين في غيابات الشيوعية يقوض النظام الدولي، الذي فرضته الولايات المتحدة بعد انتصارها في الحرب العالمية الثانية.
قاومت الصين النظام الدولي الجديد، رغم كونها من دول الحلفاء في الحرب الثانية، الرئيس الصيني ماو تسي تونغ، كان يهدد الولايات المتحدة بأنه إذا فتح مجالات الحريات أمام الصينيين، فإن الولايات المتحدة عليها أن تستعد لاستقبال 100 مليون لاجئ. وكان يمزح بأنه لا يخشى القنابل النووية، لأن الغرب إذا استخدمها ضد الصين لن يموت شعب تعداده 800 مليون نسمة، بل سيظل هناك مئات الملايين لتقوم الصين مرة أخرى. لم يفقد الأمريكيون الأمل في تحول الصين، ولذلك تمسكوا بمبدأ سياسة «الاحتواء» مع خلفاء ماو تسي تونغ، ولاسيما بعد أن انتهج سلفه المهندس دينغ هيساو بنغ مبدأ «الإصلاح والانفتاح» الذي فتح المجال لأن تتحول البلاد إلى اقتصاديات السوق، أملا في إنهاء المجاعات التي تهدد البلاد سنويا. خلال عقد واحد تمكن دينغ من إحداث طفرات اقتصادية، بينما ظل الحكم الشيوعي قائما في الأمور السياسية والاجتماعية كافة بالدولة. لم يفقد الأمريكيون صبرهم على التحول الصيني نحو الديمقراطية، والنظام الدولي الذي فرضته الولايات المتحدة، إلا في السنوات العشر الأخير، فالصين البلد الفقير تحول إلى عملاق، يهدد مكانة الولايات المتحدة ليس اقتصاديا فحسب، بل عسكريا وتكنولوجيا. وكان الصينيون يتقدمون بنعومة وعلى خجل، يفتخرون بمكانتهم الجديدة ويتهامسون في ما بينهم بأنهم سيكونون القوة الأولى في العالم بحلول عام 2050، بينما الآن يعلنونها على الملأ، وأنهم سيعودون لسيادة العالم بحلول عام 2035.
الصين تغيرت للأقوى بمساعدة الأمريكيين والغرب عامة، بينما اكتشفت الولايات المتحدة أن مكانتها أصبحت على المحك، وهناك من يخطط للإيقاع بها من قمة العالم على وجه السرعة، وبينما نقل العديد من الصناعات إلى الصين، فقد الناتج القومي الأمريكي 2٪ من قيمته سنويا، لصالح الصناعة الصينية. ويشتكي الأمريكيون من تفوق الصناعات الصينية على الأراضي الأمريكية، وتغول الصينيين في المجتمع الرأسمالي، بتملكهم أهم المؤسسات الصناعية والابتكارية في الغرب، وبنسبة 100٪ بينما لا يملك المستثمرون الغربيون الدخول لأغلب الأسواق الصينية بسهولة، وبنسبة لا تتعدى 50٪ في مجالات بسيطة. أيقن الأمريكيون أن سياسة «الاحتواء»عفا عليها الزمن، وجاء وقت الحساب، لأن الصين تمردت على «النظام الدولي» وأصبحت خطرا على الأنظمة الديمقراطية، بما ينشره نظامها الشيوعي من أفكار وأموال في أنحاء العالم، ساعدت على إيجاد تحالفات إقليمية ودولية تهدد مستقبل الغرب بأسره.
الصين تغيرت للأقوى بمساعدة الأمريكيين والغرب عامة، بينما اكتشفت الولايات المتحدة أن مكانتها أصبحت على المحك
لاحظ الأمريكيون أن الصينيين ليسوا أكبر شركاء اقتصاديين لهم ولأوروبا واليابان وغيرها، بل شكلوا تحالفات إقليمية ودولية لإدارة اقتصاد العالم، عبر مشروع الحزام والطريق، الذي أطلقه الرئيس شي جين بينغ عام 2013، تساعده في ذلك سيطرة العائلات الصينية على اقتصاد الدول المحيطة بهم، حيث تتراوح ملكيتهم ما بين 50٪ إلى 100٪ من اقتصادات دول مثل إندونيسيا وتايلند وماليزيا وسنغافورة وتايوان. كما سعى الصينيون إلى عمل تحالفات عسكرية وبناء قواعد عسكرية في جيبوتي وخليج غينيا، وبحر الصين الجنوبي، وشراء موانئ في اليونان وسريلانكا وأمريكا الوسطى، والوجود في مناطق المضايق والتحالف الاستراتيجي مع روسيا، الخصم اللدود للغرب لحماية مصالحها المتنامية والمتعارضة مع الغرب.
شهد الرئيس الأمريكي بايدن، حينما كان نائبا للرئيس الأسبق باراك أوباما، وضع المخططات الأولى لمواجهة التهديد الصيني، حيث كلفت الحكومة الأمريكية مؤسساتها البحثية والأمنية، لوضع سياسة المواجهة مع الصين، وهو الأمر الذي استدعاه مؤخرا بعد عودته للحكم رئيسا. اتفق الخبراء على أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تلجأ للحرب، لحسم المواجهة مع أي دولة، بعد أن تبين أن هذا الخيار يقسم المجتمع الأمريكي ومكلف وغير مفيد على الإطلاق، كما حدث في حرب أفغانستان والعراق، وكما وقع من قبل في فيتنام.
تبين للخبراء أن نظرية توازن القوى، المستخدمة منذ الحرب العالمية الثانية، في مجال العلاقات الدولية، لن تفيد في حل معضلة الصين، لأنها دولة تمتلك الكثير من الرادع النووي والتفوق الديمغرافي، بما يعادل خمس سكان العالم.
واستبعد الخبراء لجوء الولايات المتحدة وحلفائها إلى مواجهة الصين عبر «القوة الصلبة» لأن تدمير الصين من خلال الحرب، بغض النظر عن امتلاكها الرادع النووي، يعني تدمير اقتصاد الولايات المتحدة وحلفائها في الوقت نفسه. وضع الأمريكيون خليطا من الحروب المستحدثة التي يملكونها، ويعرفون كيفية توظيفها ضد خصومهم، وهي تتراوح بين توظيف القوة الناعمة «، وفقا للمفهموم الذي وضعه جوزيف نيه، الأستاذ بجامعة هارفارد لاستمالة الأنظمة والشعوب، عبر نشر مبادئ الحريات والعدالة والترويج للديمقراطية، وتقديم المساعدات الاقتصادية لتحويل ذلك المجتمع تدريجيا لما يشبه الولايات المتحدة، بالاضافة إلى التوسع في توظيف ما يسمى بـ«القوة الذكية» وفقا لمفهوم سوزان ناسل، الذي يوجه إمكانات شبكات المعلومات والانترنت والفضاء الإلكتروني في مواجهة الخصم لتطويعه واستمالته بدلا من استخدام القوة. وأقرت أجهزة الحكومة الفيدرالية العسكرية والأمنية توظيف مبادئ «القدرة على الإرغام» وفقا للدراسة التي أعدتها مؤسسة (راند) للأبحاث، لحساب وزارة الدفاع الأمريكية عام 2016 التي صدرت بعنوان «مواجهة الأعداء بدون حرب» وهو المبدأ الذي شرع الرئيس الأمريكي السابق ترامب في تطبيقه، بتركيزه على الجانب الاقتصادي. يعتمد هذا المبدأ على»التدافع والتحوط» مع الصين لإرغامها على تغيير السلوك، الذي لا يرغب الغرب في وجوده، بما لا ينقل الأمر إلى مرحلة التهديد العسكري، ولا يعطل النظام العالمي.
وفقا للدراسة فإن الإدارة الأمريكية لديها قدرة إرغام كبيرة على التغيير في أمور لا تملك الصين الرد عليها ومنها: مراقبة الأصول المالية، عبر شبكات التحويل التي تتحكم فيها الولايات المتحدة بالتعاون مع شركائها الأوروبيين وسويسرا، ولا تملك الصين إلا الانصياع لها، وهو السلاح نفسه الذي وظفته الولايات المتحدة، في حصار إيران وروسيا ونظام كوريا الشمالية، وما طبق على العديد من الشخصيات الرسمية، والشركات والبنوك الصينية في السنوات القليلة الماضية.
ستدعم الولايات المتحدة رقابتها على المضايق الدولية بداية من سوقطرة وباب المندب وقناة السويس وقناة بنما وجبل طارق، امتدادا إلى مضيق تايوان والممرات الحيوية بالبحار والمحيطات بما تملكه من قوة بحرية هائلة تتصل بشبكة معلومات وأقمار صناعية، وشبكات معلومات ضخمة، بما يحول دون حصول الصين على استيراد، أو تهريب معدات التكنولوجيا الفائقة، أو التعامل مع الدول المارقة من وجهة النظر الغربية مثل، كوريا الشمالية، أو الواقعة تحت الحظر الدولي مثل إيران وروسيا، بما يحرمها من حلفائها والتغلب على الإرادة الأمريكية. ستواصل الولايات المتحدة منع الشركات الصينية والأفراد والكيانات التي لها صلة بالحزب الشيوعي الحاكم، وأجهزته الأمنية من امتلاك أي شركات في الغرب، وحظر تصدير المواد والمنتجات التي لها توظيف عسكري أو مزودج مع المدني، والحد من سرقة التكنولوجيا الغربية أو تقليدها. وتستهدف الولايات المتحدة مساندة الهند والدول الخصوم للصين، خاصة في المناطق المجاورة لها، ودعم مطالب المجتمع المدني المحلية، وووسائل الإعلام والمعارضة غير العنيفة للسلطة، والتنديد بوحشية النظام في إطار منهج متكامل لـ«شيطنة النظام» من أجل لي ذراعه، لأخذ ما تريده بالحسنى وليس بالحرب.
ستظل الصين معرضة لسياسة الترغيب والترهيب، ومجالا واسعا لتطبيق المستحدثات من الأفكار النظرية التي يبتدعها الأمريكيون للتعامل مع الخصوم، وإن تطلب الأمر استخدام عمليات استخبارية سرية، وحملات دعائية واسعة، وحظر على البضائع والأشخاص، ولكن ستظل الكثير من المصالح هي التي تدفع الولايات المتحدة إلى بقاء الصين كقوة اقتصادية كبيرة وحكومة قادرة على حماية الدولة من انفلات أمني واسع ومنع العمليات الانفصالية، لأن هناك كثيراً من الملفات الساخنة المعلقة بين الطرفين، لا يمكن غلقها إلا بتدمير الآخر، وهو ما لن تسمح به الولايات المتحدة وشركاؤها الغربيون، خلال نصف القرن الحالي على الأقل. فالصين لن تسقط الولايات المتحدة من عرشها بهذه السهولة في الأمد القريب، ورغم قناعة بايدن بأن الصين تمثل تحديا للنظام الديمقراطي للغرب، وتعتبر مشكلة كبرى، فإن هدفه ليس «كبحها أو تقييدها، بل الحفاظ على القواعد التي يقوم عليها النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية».
ووفقا للرؤية الجديدة قد يتحول النظام الصيني إلى «نظام شيطاني» سيئ السمعة، حتى لا يقتدي به الآخرون، مع ذلك لن يقاطعه الغرب، أو يتحول إلى عدو خطير في سنوات. فالصين لم تعد مهمة لشعبها وذاتها فقط، لأن ما تملكه من قدرات صناعية وطاقة بشرية، وأموال يشارك في انتاج نحو 15٪ من الناتج العالمي بينما تنتج الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو نحو 50٪ من هذا الناتج، وكثير من مكونات هذا الناتج لا يمكن أن تتم إلا عبر مرورها داخل الأراضي الصينية.
عادل صبري
القدس العربي