يأتي احتفال «الحزب الشيوعي الصيني» بالذكرى المئوية لتأسيسه في يوليو 1921 ليعيد تحريك السؤال غير السهل حول مسار هذا الحزب الضخم وأيديولوجيته «الفعلية» اليوم، وعلاقته بالتسمية التي يحملها، والتي لا تظهر عليه الرغبة أبداً في التخلي عنها، ولا في التخلي النصّي، إنْ في ميثاقه أو في دستور البلد الذي يسود عليه، عن مرجعية الماركسية اللينينية مضاف إليها فكري ماو تسي تونغ» ودينغ شياو بينغ، ناهيك عن» فكر شي جين بينغ للإشتراكية بالخصائص الصينية للعصر الجديد» الذي جرى اعتماده في مؤتمر الحزب عام 2017.
وهي صيغة تحمل اسم الإمبراطور الشيوعي الحالي شي جين بينغ، الذي يجمع في شخصه عددا من السلطات، كرئيس للدولة وزعيم الحزب ورئيس للجنة العسكرية المركزية، بما يجعله أقوى شخصية على رأس الحزب والدولة منذ رحيل ماو عام 1976.
بل إنّ باني الجمهورية الشعبية نفسه لم يكن يتمتع بكل هذه السلطات في وقت واحد. لا يعني هذا في الوقت نفسه أن شي جين بينغ، نجح منذ توليه القيادة عام 2012 وحتى الآن، في لجم كل التناقضات والتوترات في الحزب بشكل نهائي تحت لوائه، ومن الراجح أن يمثل المؤتمر العشرون للحزب الصيني الحاكم، العام المقبل، منعطفاً جدّياً في هذا المجال، إما لتمكين شي بالظفر بالقيادة مجدداً، ولولاية مؤتمرية ثالثة، مع ما يمكن أن يعنيه ذلك من ضحايا سياسيين محتملين، قد يكون من جملتهم رئيس الوزراء الحالي لي كه تشيانغ، وإما أن تفرز التقاطعات بين أجنحة الحزب و«مراكز القوى» فيه عن مسار في غير صالح شي، وهذا، إلى الآن، هو الإحتمال الأضعف.
والحزب الشيوعي الصيني تكوين عملاق وغريب. لكنه ليس حزباً كرتونياً يمكن تشبيهه مثلاً بحزب «روسيا الموحدة» الموالي لفلاديمير بوتين والذي يحوز الأكثرية البرلمانية في «دوما الدولة» الروسي منذ 2007 بلا انقطاع.
يضم هذا الحزب الضخم طبقات المجتمع الصيني كلها، بل سمح فيه رسمياً لرجال الأعمال وكبار المستثمرين بالانتساب إليه، بل أن أغنى أغنيائها من أعضائه، وعموماً لا يواجه الحزب مشكلة مع هؤلاء، فهم الأكثر طواعية له، والأكثر إدراكاً لمصلحتهم في تأمين جانبه من أجل تسهيل أعمالهم، هذا في مقابل احتراز الحزب من الطبقة الوسطى المدينية المتنامية، والسعي الدؤوب لديه لجعلها تركز على الرغبات الإستهلاكية، وعدم الذهاب بعيداً عند التطرق إلى السياسة.
في المقابل، لم يؤد الإنخراط الكبير للصين الشعبية في الثورة الصناعية الآسيوية، وبخاصة في مرحلة ما بعد ماو، وازدياد عديد الطبقة العاملة الصناعية فيها، إلى زيادة نوعية في نسبة العمال فيه، إذ لا تزال الحصة العددية الأولى للفلاحين، ثم لموظفي الدولة، والمهندسين.
المفارقة أن المواءمة بين دولة القانون وبين رأسمالية السوق أيسر من المواءمة بين رأسمالية الدولة وبين دولة القانون. المفارقة المقابلة ان أزمات رأسمالية الدولة تختلف بنيويا عن الأزمات المرصودة منذ أيام ماركس لرأسمالية السوق
مع هذا يتمسّك هذا الحزب بوجوده، وقد تعزز منذ وصول شي جين بينغ إلى قيادته الإصرار على هيمنة الحزب على الدولة وجيش التحرير الشعبي وكل أنواع المنظمات القائمة في المجتمع، هذا مع التشديد في الوقت نفسه على أن الصين التي تعتمد في دستورها مبدأ الديكتاتورية الشعبية الديمقراطية، هي كذلك الأمر «دولة قانون» وهذه مقولة تستحضر صينياً كلما سعت القيادة الى تجريد حملة ضد من تعتبرهم فاسدين داخل الحزب.
مقارنة بالحزب الشيوعي السوفياتي، سليل حزب البلاشفة في روسيا، الذي لم يعد موجوداً، ومن الصعب اعتبار حزب زيوغانوف المدجن في البرلمان الروسي استمرارية فعلية له، فإن الحزب الشيوعي الصيني يستطيع رغم كل غرابته كحزب شيوعي، المنافحة عن استمراريته منذ مئة عام الى اليوم، وهي مئة عام قضى 73 منها في قيادة الصين الشعبية بعد ظفره على الحزب الوطني، الكيومنتانغ، الذي لاذ إلى جزيرة فورموزا أو تايوان، ولم يزل يحتفظ بها إلى الآن. لا يلغي ذلك أن هذا الحزب يؤسطر لحظة نشأته في مؤتمر شنغهاي، يوليو 1921، ومنذ عقود طويلة، خاصة وان أمينه العام الأول طُرد منه، وأن ماو لم يكن أساسياً في لحظة التأسيس تلك.
مقارنة بالتاريخ السوفياتي، لم تنشأ في التاريخ الصيني ثنائية الحزب الشيوعي من جهة، والشرطة السرية من جهة ثانية، ولم يجر تقويض هيمنة الحزب لصالح الشرطة السرية، كما حدث في العهد الستاليني، ثم إعادة اخضاع الجهاز المخابراتي للحزب، بعد ستالين، انفراط عقد الحزب وبقاء الجهاز، وامساكه بالسلطة مجدداً مع فلاديمير بوتين.
إلا أن الحزب السوفياتي المندثر، كان الى حد بعيد حزباً عمالياً. قاعدته الأساسية من العمال الصناعيين، رغم الارتفاع المتزايد لنسبة الموظفين والمهندسين، في حين لم يتحول الحزب الشيوعي الصيني إلى حزب عمالي الا أيام «كومونة كانتون» عام 1927، التي سحقها الكيومنتانغ بشكل دموي.
المضمر الرهيب في حياة هذا الحزب، الذي اصطدم بالكيومنتانغ، وصمد أمام ضغوط ستالين في الثلاثينيات والاربعينيات لحمل الشيوعيين الصينيين على التحالف معهم (لأن ستالين لم يكن مقتنعاً كذلك الأمر بشيوعية الحزب الصيني، لضعف قاعدته العمالية، وثقل قاعدته الفلاحية) هو أن هذا الحزب دار دورة كاملة وعاد أشبه ما يكون بالصورة المثالية للحزب الوطني كيومنتانغ الذي قاده تشانغ كاي تشك من بعد صن يات صن عن نفسه، كحزب يقود في الصين نهضة تحررية وطنية، تعيد توحيد البلد القارة، وتطلق عجلة الإنتاج وتحقق زيادة متواصلة في مستويات العيش، في ظل رأسمالية دولة. مع فارق أساسي، وهو أنه بالنسبة الى الحزب الشيوعي الصيني رأسمالية الدولة هذه يلزمها حزب من طرازه، وليس من طراز الكيومنتانغ كي تكون قادرة، فعالة، أي يلزمها تكوين مركزي هرمي تعبوي جماهيري يدين بفكرة ذات طابع كوني: الاشتراكية.
في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، ساهم الفيلسوف الماركسي الفرنسي لوي التوسير في إيضاح مسألة أساسية، وهو أنه ليس هناك عند ماركس ولا في الماركسية ما يمكن أن يدعى، بين الرأسمالية وبين الشيوعية، نمط إنتاج اشتراكي قائم بذاته. بالتالي الاشتراكية بحد ذاته هي مرحلة انتقالية، وليس هناك ما يسمى انتقال نحو الاشتراكية. من بين كل ركام الأفكار الذي نسفها الانهيار السوفياتي بالنتيجة، ثمة، في إيضاح التوسير هذا مفتاح لمقاربة تجربة الصين تحت حكم هذا الحزب الشيوعي. ليس بمعنى أنها في مرحلة انتقالية بين الرأسمالية والشيوعية، بل في كونها تعيش نموذج رأسمالية الدولة في أضخم أشكاله، كأحد نموذجين أساسيين تقوم عليه الرأسمالية في عصرنا، بلدان فيها رأسمالية الدولة أولاً، وبلدان فيها رأسمالية السوق. المفارقة أن المواءمة بين دولة القانون وبين رأسمالية السوق أيسر من المواءمة بين رأسمالية الدولة وبين دولة القانون. المفارقة المقابلة ان أزمات رأسمالية الدولة تختلف بنيويا عن الأزمات المرصودة منذ أيام ماركس لرأسمالية السوق. ما بين هاتين المفارقتين، تتحرك التجربة الصينية.
القدس العربي