الجنوب الليبي.. نقطة انطلاق النفوذ الروسي نحو الساحل

الجنوب الليبي.. نقطة انطلاق النفوذ الروسي نحو الساحل

“وجودنا في الجنوب الليبي.. حلم”، بحسب سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، لكن هذا الحلم يصطدم مع مصالح دول كبرى وإقليمية، مما يدعو للتساؤل عن الأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة المهمشة.

رواية الحلم الروسي في الجنوب الليبي ذكرها المحلل السياسي الليبي محمد بويصير، نقلا عن وزير الخارجية الليبي السابق محمد الطاهر سيالة، الذي سبق له وأن التقى لافروف أكثر من مرة في موسكو، آخرها نهاية ديسمبر/كانون الأول 2020.

وتتواجد روسيا في إقليم فزان (جنوب غرب) عبر شركة فاغنر الأمنية، التي نشرت عناصرها في قاعدتي براك الشاطئ (700 كلم جنوب طرابلس) وتمنهنت الجويتين (750 كلم جنوب طرابلس)، منذ سبتمبر/أيلول 2020.

ولم تكتف فاغنر الروسية بالتمركز بقاعدة تمنهنت (التابعة لمحافظة سبها) وإعادة تأهيل قاعدة براك الشاطئ (كانت خارج الخدمة) بل سبق ذلك دخولها أكبر حقلين نفطيين في فزان.

ففي 25 يونيو/حزيران 2020، وعقب اندحارها ومليشيات حفتر من جنوبي طرابلس والمنطقة الغربية، توجهت عناصر من فاغنر رفقة مرتزقة أفارقة إلى حقل الشرارة النفطي (أكبر حقل في البلاد) انطلاقا من قاعدة الجفرة الجوية (وسط) ثم دخلت حقل الفيل النفطي، ومهبطه الجوي.

وتحولت روسيا إلى القوة الأجنبية الأولى المهيمنة على الجنوب الليبي مزيحة فرنسا المستعمر التاريخي لإقليم فزان (1943- 1951) من المنطقة.

ففي أبريل/نيسان 2021، حلق طيران حربي لمرتزقة فاغنر فوق تمنهنت وسرت، أشبه باستعراض قوة، بالتزامن مع تصاعد الصراع مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) في البحر الأسود قرب سواحل شبه جزيرة القرم الأوكرانية المحتلة.

ورغم الضغوط الأمريكية والغربية الشديدة على فاغنر والعقوبات المسلطة عليها للخروج من ليبيا، طبقا لما نصت عليه مخرجات مؤتمر برلين الأول والثاني، وأيضا اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في جنيف 23 أكتوبر 2020، إلا أنه لا توجد أي مؤشرات عن انسحاب وشيك لفاغنر من ليبيا.

بل على العكس من ذلك، تعزز من مكاسبها في البلاد، بدليل أن خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي (نيابي استشاري) كشف، في 10 يوليو/تموز 2021، أن مرتزقة فاغنر تضاعف عددهم منذ اتفاق وقف إطلاق النار.
وفي يونيو 2020، قدرت القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) عدد مرتزقة فاغنر بنحو 2000 عنصر.

الجنوب الليبي مفتاح الساحل الإفريقي
لكن فاغنر لا تجند فقط مقاتلين روس ومن أوروبا الشرقية، بل أيضا مرتزقة من سوريا موالين لنظام بشار الأسد، وحتى مرتزقة تشاديين وسودانيين.

فزعيم المتمردين التشاديين محمد مهدي، الذي قاد هجوما على شمالي تشاد انطلاقا من الجنوب الليبي في أبريل الماضي، اعترف، لصحيفة ميديا بارت الفرنسية، أن مليشياته تلقت تدريبات على يد مرتزقة فاغنر في قاعدتي براك الشاطئ وتمنهنت ومناطق أخرى في الجنوب الليبي.

وهذا الاعتراف يتقاطع مع اتهامات أمريكية لفاغنر بدعم هجوم المتمردين على شمال تشاد وتوغلهم إلى المناطق الغربية القريبة من العاصمة نجامينا مما تسبب في مقتل الرئيس إدريس ديبي، واستيلاء مجلس عسكري على السلطة بقيادة نجله محمد ديبي.

وهجوم المتمردين على شمال تشاد، نبه العالم إلى خطورة تواجد المرتزقة الأجانب في الجنوب الليبي على أمن واستقرار دول الساحل التي تخوض حربا مصيرية ضد الجماعات الإرهابية.

فاستراتيجية موسكو لا تتمثل فقط في طرد فرنسا من الجنوب الليبي بل من كامل منطقة الساحل الإفريقي، وفزان يمثل نقطة الانطلاق الروسية لتحقيق هذا الهدف.

وتعتبر تشاد الهدف الأول لموسكو لوقوعها بين فكي الكماشة الروسية في جمهورية إفريقيا الوسطى جنوبا وإقليم فزان الليبي شمالا، خاصة وأن نظام ديبي الأب والابن، شكل تهديدا على المصالح الروسية في المنطقة باعتباره شرطي فرنسا في الساحل.

أما مالي فقد تكون الهدف السهل لموسكو، حيث أطاح انقلاب قاده العقيد عاصيمي كويتا، المحسوب على روسيا، بحكم الرئيس المؤقت باه نداو، في مايو/ أيار الماضي.

وترتفع الأعلام الروسية في المظاهرات التي تخرج في شوارع بماكو العاصمة المالية مطالبة برحيل القوات الفرنسية، التي يلاحقها إرثها الاستعماري للبلاد، مقابل استعادة الماليين لدور الاتحاد السوفييتي في دعم استقلالهم بقيادة الزعيم الاشتراكي موديبو كيتا (1960 -1968).

وأدى انقلاب كويتا إلى إنهاء فرنسا عملية برخان العسكرية في الساحل، وإفساح المجال لأفريكوم لقيادة المنطقة، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية ومنذ عهد باراك أوباما (2009-2016) تميل إلى تكتيك “القيادة من الخلف”، من خلال تدريب الجيوش المحلية وتسليحها ودعمها لوجستيا بالإضافة إلى الضربات الجوية عبر الطائرات المسيرة للأهداف المعادية.

وأقنعت فرنسا الرئيس السابق دونالد ترامب، بعدم الانسحاب من الساحل خاصة في ظل الدور اللوجيستي الهام الذي تقدمه لقوات برخان في مواجهة الجماعات المسلحة.

وليس مؤكدا أن باريس بإمكانها إقناع الولايات المتحدة قيادة الحرب على الإرهاب في الساحل بالتزامن مع إنهاء عملية برخان وانسحاب واشنطن من أفغانستان.

فانكفاء الولايات المتحدة على نفسها بعد 20 سنة من “الحرب على الإرهاب”، وعجز فرنسا عن خوض حرب طويلة الأمد وعدم قدرتها على تحمل خسائر مادية وبشرية تفوق إمكانيات اقتصادها المنهك بفعل وباء كورونا، يفتح المجال أمام موسكو للتمدد أكثر في منطقة الساحل.

وإحدى دلالات هذا التمدد، توقيع روسيا وموريتانيا، في 23 يونيو الماضي، مذكرة تفاهم عسكري شملت التعاون في مجال مكافحة الإرهاب، والتعليم والطب العسكريين.

رفض جزائري لتواجد مرتزقة على حدودها
تنظر الجزائر بحذر إلى تواجد مرتزقة فاغنر في الجنوب الغربي الليبي المحاذي لحدودها الجنوبية الشرقية، فكما أن فزان بوابة للساحل الإفريقي فهو بوابة أيضا نحو أراضيها.

ووقوف فاغنر إلى جانب حفتر، الذي يتخذ مواقف حادة تجاه الجزائر، يدفع الأخيرة لتنسيق سياساتها في المنطقة مع موسكو لتجنب أي خلاف أو اصطدام للمصالح في الجنوب الليبي.

وتأتي زيارة قائد الأركان الجزائري سعيد شنقريحة إلى موسكو ضمن هذا السياق، حيث أشار خلال زيارته لموسكو ما بين 21 و23 يونيو الماضي، إلى أن علاقات بلاده مع روسيا بصدد “التعزيز عبر المزيد من المشاورات والتعاون المثمر بين الطرفين”.

وفي كلمته خلال الندوة التاسعة للأمن الدولي بموسكو كان لافتا تأكيد شنقريحة أن الجزائر “تلعب دورا مركزيا ليس فقط في البحر المتوسط وشمال إفريقيا، بل في جميع أنحاء القارة”.

ما يعني رغبة جزائرية في توسيع التشاور مع روسيا ليشمل أيضا منطقة الساحل وكامل القارة الإفريقية، باعتباره القوة الثانية عسكريا في القارة، والرابعة اقتصاديا، ناهيك عن نفوذها الدبلوماسي ضمن الاتحاد الإفريقي وبالأخص مجلس السلم والأمن بالاتحاد، حيث تعتبر الجزائر من بين خمس دول الأكبر تمويلا لميزانية المنظمة الإفريقية.

فالفراغ الفرنسي في الساحل قد تملؤه روسيا بالتنسيق مع الجزائر، بينما قد يتم تحجيم دور مليشيات حفتر في منطقة غات الحدودية مع الجزائر، الخاضعة لسيطرة قوات من الطوارق بقيادة الفريق علي كنة، الموالي لحكومة الوحدة الوطنية.

فعلى عكس ما أعلنته مليشيات حفتر من سيطرتها على المعبر الحدودي إيسين/ تين الكوم، لم يرصد الجيش الجزائري تواجد هذه المليشيات على الطرف الآخر من الحدود، بحسب تقارير إعلامية.

ما يعني أن مزاعم مليشيات حفتر مجرد فقاعة إعلامية لجس نبض الجيش الجزائري، الذي يمثل له الجنوب الليبي منطقة حساسة لأمنه القومي.

وسبق للجزائر أن رفضت تدخلا عسكريا فرنسيا علنيا في الجنوب الليبي انطلاقا من تشاد، مما اضطر باريس للتحرك بشكل محدود وسري في المنطقة (ما بين 2014 و2020)، بحسب محللين فرنسيين.

كما أن عدة عناصر إرهابية من أصل جزائري اتخذت من الجنوب الليبي قاعدة خلفية لاستهداف البلاد على غرار زعيم “حركة أبناء الصحراء من أجل العدالة”، عبد السلام طرمون، الذي قتل في مدينة سبها، مركز إقليم فزان، في ظروف غامضة.

وليست فقط روسيا وفرنسا والجزائر معنيين بالجنوب الليبي بل الولايات المتحدة تمثل لاعبا آخر ولو من بعيد في فزان، حيث شنت طائرات مسيرة أمريكية عدة غارات استهدفت تجمعات لعناصر يشتبه في أنهم يتبعون لتنظيمات إرهابية، خاصة حول مدينتي مرزق وأوباري.

فالجنوب الليبي الغني بالنفط والغاز وأيضا الذهب واليورانيوم والمياه الجوفية، يكاد يتحول إلى منطقة نفوذ خالصة لروسيا، ما يجعل إخراج فاغنر مسألة غاية في تعقيد.

(الأناضول)