اعتذار الحريري عن تشكيل حكومة لبنان.. خلفيات وتداعيات

اعتذار الحريري عن تشكيل حكومة لبنان.. خلفيات وتداعيات

بعيدا عن احتمالات تفاقم الأزمة السياسية في لبنان عقب إعلان رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري اعتذاره عن تشكيل الحكومة، فإن هناك ثمّة احتمالات لدخول البلاد أزمات أمنية جديدة في بلد يعاني أصلا من تعدد مراكز القوى، وتراجع غير مسبوق في القطاع الاقتصادي، واحتجاجات شعبية متواصلة على تردي الأوضاع المعيشية.

ويعيش لبنان حالة من غياب حكومة فاعلة كاملة الصلاحيات منذ إعلان رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب استقالته في أغسطس/آب من العام الماضي، بعد انفجار مرفأ بيروت الذي أودى بحياة ما لا يقل عن 200 شخص، وخلف دمارا هائلا في المرفأ والمناطق المحيطة به.

ورُشح الحريري لرئاسة الوزراء نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي بعد إجبار الحكومة السابقة التي يرأسها حسان دياب على الاستقالة تحت ضغوط شعبية وسياسية واتهامات بالتقصير في إدارة أزمة انفجار مرفأ بيروت، واستمراره كرئيس “مؤقت” لحكومة تصريف أعمال بصلاحيات محدودة.

وجاء ترشيح الحريري بعد إعلان المرشح مصطفى أديب اعتذاره عن تشكيل الحكومة بعد أيام فقط من تكليفه لتشكيل حكومة كفاءات لإدارة البلاد بعد الانفجار.

ومنذ الأيام الأولى لترشيحه، واجه الحريري تحديات خلافاته السياسية مع رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره الرجل القوي وزير الخارجية السابق جبران باسيل.

وشغل الحريري منصب رئيس الوزراء لمرتين، الأولى بين عامي 2009 و2011، والثانية بين عامي 2016 و2020.

وسقطت حكومة الحريري الأولى عام 2011 بعد قرار “التيار الوطني الحر” الذي يرأسه باسيل بالانسحاب من الحكومة مع القوى الحليفة له في “حزب الله” و”حركة أمل”، لمعارضتهم تمويل المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة قتلة والد سعد الحريري رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري من ميزانية الدولة اللبنانية.

وفي 15 يوليو/ تموز الجاري، أعلن الحريري اعتذاره عن تشكيل الحكومة بعد لقاء جمعه بالرئيس اللبناني ميشال عون، وفشلهما في التوصل إلى اتفاق على تشكيلة الحكومة من حيث أسماء الوزراء أو عددهم.

وبموجب دستور الدولة اللبنانية، يوقع كل من رئيس الوزراء المكلف ورئيس الجمهورية على مرسوم تشكيل الحكومة.

ويرى مراقبون أن هناك خلافات في فهم الدستور بين رئيس الجمهورية الذي يرى أن صلاحياته الدستورية لا تقتصر على توقيع مرسوم تشكيل الحكومة إلى جانب رئيس الوزراء المكلف، وبين الأخير الذي يرى أنه صاحب الدور الأساسي في تشكيل الحكومة وتسمية الوزراء بالتشاور مع الكتل النيابية، وهو ما فعله الحريري طيلة تسعة أشهر من تكليفه.

وبحسب نص المادة 64 من الدستور اللبناني، فإن رئيس الوزراء المكلف بتشكيل الحكومة “يجري الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة”، دون الإشارة إلى أي دور لرئيس الجمهورية.

ووفقا لتفاهمات المكونات اللبنانية، فإن رئيس الجمهورية يكون من المسيحيين الموارنة ورئيس مجلس النواب من الشيعة ورئيس الوزراء من السنة.

وبُعيد إعلان الحريري اعتذاره، أغلق مناصروه بعض الطرق الرئيسية وأضرموا النيران في الإطارات في عدد من أحياء بيروت احتجاجا على موقف الرئيس عون المعرقل لتشكيل الحكومة.

وحمّل الرئيس اللبناني رئيس الوزراء المكلف مسؤولية الفشل في التوصل إلى اتفاق على تشكيلة الحكومة بعد رفضه تغيير أي أسماء في التشكيلة المقترحة، متهما إياه بأنه “كان يخطط للاعتذار، ويبحث عن ذريعة لتبرير قراره”.

وقالت الرئاسة اللبنانية في بيان، إن الحريري “رفض كل التعديلات المتعلقة بتبديل الوزارات والتوزيع الطائفي لها والأسماء المرتبطة بها”.

في حين حمّل الحريري فريق الرئيس عون، مسؤولية عرقلة تشكيل الحكومة بإصراره على تسمية عدد من الوزراء من الموالين له للحصول على “الثلث المعطل” الذي يسمح لهؤلاء بالتحكم في قرارات الحكومة.

وشهدت الأشهر التسعة الماضية حراكًا دوليًا داعمًا لإخراج لبنان من أزمة تشكيل الحكومة مع تلويح الاتحاد الأوروبي بإجراءات عقابية للأحزاب والقادة الذين يعرقلون تشكيل الحكومة.

وصدرت دعوات من عدد من حكومات دول العالم للقادة اللبنانيين لدعم تشكيل الحكومة، وزار سفيرا الولايات المتحدة وفرنسا السعودية لمناقشة الأوضاع اللبنانية مع المسؤولين السعوديين.

كما أن رئيس الوزراء المكلف زار عددا كبير من الدول لحشد الدعم لتشكيل الحكومة، منها فرنسا ومصر والسعودية وتركيا وقطر والإمارات ودول أخرى، في تأكيد على تأثير العامل الإقليمي والدولي في مجريات الأزمة السياسية في لبنان.

وقبيل إعلان اعتذاره، قدم الحريري تشكيلة حكومية تضم 24 وزيرا إلى الرئيس عون في محاولة أخيرة منه للتوصل إلى اتفاق ثنائي بينهما.

ووفقا لمصادر لبنانية، فإن التشكيلة المنسجمة مع المبادرة الفرنسية تضم خبراء وكفاءات من خارج الأحزاب السياسية لإدارة الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، وهو ما اعترض عليه عون الذي نقلت وسائل إعلام رسمية عنه أن منصبه يعطيه صلاحية تسمية وزراء مقربين منه.

ومن أبرز تداعيات اعتذار الحريري عن تشكيل الحكومة، دخول البلاد في مرحلة جديدة من غياب الحكومة المؤهلة للدخول في مباحثات مع صندوق النقد الدولي حول تقديم حزمة مساعدات لإنعاش الاقتصاد اللبناني المتراجع.

وتشترط حكومات داعمة في الاتحاد الأوروبي والخليج العربي، ومنظمات دولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تشكيل حكومة جديدة كاملة الصلاحيات تلتزم بالإصلاحات الاقتصادية قبل الإفراج عن المساعدات أو القروض أو المنح.

وتراجعت العملة المحلية منذ بدء الاحتجاجات الشعبية أواخر عام 2019 إلى أدنى مستوياتها، لكنها تراجعت بشكل أكبر بعد اعتذار الحريري عن تشكيل الحكومة، إذ بلغت أكثر من 20 ألف ليرة مقابل الدولار الأمريكي في السوق الموازية (بينما يوازي في السوق الرسمية 1511 دولارا فقط).

ويشير خبراء إلى أن العملة المحلية فقدت 90 في المئة من قيمتها خلال 30 عاما، ما أدى إلى تراجع القدرة الشرائية للبنانيين إلى أدنى مستوى.

وتحذر تقارير البنك الدولي من انهيار الاقتصاد اللبناني بعد تراجع الاقتصاد بنسبة تصل إلى 20.3 في المئة خلال العام 2020 فقط.

ومنذ انفجار مرفأ بيروت العام الماضي، زادت التدخلات الدولية، الفرنسية خاصة، في شؤون لبنان، في حين سعت الولايات المتحدة ودول حليفة لها في المنطقة إلى ممارسة المزيد من الضغوطات على القوى اللبنانية من خلال حجب الدعم المالي والمساعدات عن لبنان.

ومن المتوقع أن يدعو الرئيس عون بدءًا من اليوم الاثنين الموافق 26 يوليو/تموز الجاري، إلى مشاورات نيابية لتسمية مرشح جديد لرئاسة الوزراء.

وعلى ما يبدو فإن المرشح الأوفر حظا للتكليف هو نجيب ميقاتي، وهو رجل أعمال شغل عدة مناصب سياسية واقتصادية في لبنان، وانتخب نائبا في مجلس النواب، وعين وزيرا أكثر من مرة، وتولى رئاسة مجلس الوزراء مرتين، الأولى خلفا لرئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري بعد اغتياله في فبراير/ شباط 2005 كرئيس لحكومة تصريف أعمال استمرت عدة شهور، والثانية استمرت لعامين فقط بين 2011 و2013.

ويخشى اللبنانيون من أن يكون فشل الحريري في تشكيل الحكومة سيقود إلى تفاقم الأزمة السياسية والدخول في مرحلة جديدة من التدخلات الإقليمية والدولية.

ومن المحتمل أن يلجأ اللبنانيون إلى تشكيل حكومة تقود البلاد لمرحلة انتقالية تمهد لانتخابات ربيع العام القادم، التي يرى مراقبون أن حكومة محدودة الصلاحيات في ظل الأزمتين السياسية والاقتصادية ستهيئ الظروف لدخول جبران باسيل حليف “حزب الله” القوي إلى قصر بعبدا.

(الأناضول)