إذا سارعت ليبيا إلى إجراء انتخابات دون حل قائمتها الطويلة من القضايا الدستورية المتنازع عليها، فإنها تخاطر بخلق شكل أكثر خطورة من أزمة الشرعية التي تتكشف حالياً في تونس. وبدلاً من أن يكون البلد المجاور بمثابة نموذج يُحتذى به، إلّا أن تونس أججت حالياً الاستقطاب العميق في ليبيا.
تُسابق لیبیا عقارب الساعة لإجراء انتخابات في أواخر كانون الأول/ديسمبر. فقد مرّ الموعد النهائي لحلّ مسألة الأساس الدستوري (أو القانوني) اللازم لإجراء الانتخابات والذي كان محدداً في الأول من تموز/يوليو. وكان اجتماع مهم ضمّ 74 عضواً من أعضاء “ملتقى الحوار السياسي الليبي”، الذي حدّد الجدول الزمني للانتخابات من خلال خارطة الطريق التي وضعها في كانون الثاني/يناير، قد انتهى بشكل غير حاسم في 2 تموز/يوليو. كما فشلت “بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا”، التي أسست الملتقى، في التوسط للتوصل إلى توافق في الآراء كانت البلاد بأمس الحاجة إليه. وحتى الآن، لا يوجد اتفاق على نوع الانتخابات التي ستجرى (رئاسية أو برلمانية أو كلتيهما)، وما هو نوع النظام الحكومي الذي سيختاره الليبيون (محتوى الدستور)، وكيف سيتم إجراء الانتخابات، من بين القضايا المؤسسية الأخرى. إن خمسة أشهر ليست فترة طويلة لحل هذه القضايا. وبدلاً من أن تكون تونس بمثابة نموذج يُحتذى به، إلّا أنها أججت حالياً الاستقطاب العميق في ليبيا.
وبالنسبة لليبيين المتشككين في وجود نظام رئاسي قوي، فإن استيلاء الرئيس التونسي قيس سعيّد على السلطة التنفيذية في 25 تموز/يوليو قد برّر شكوكهم بشأن ما يمكن أن يحدث مع رئيس منتخب حتى مع وجود مجلس نواب قوي. وسرعان ما أعلن خالد المشري، رئيس “المجلس الأعلى للدولة” – الذي هو مجلس استشاري – والمسؤول الأقرب في البلاد إلى العقيدة الإسلامية، “نحن نرفض الانقلابات على الهيئات المنتخبة وتعطيل المسارات الديمقراطية”. ومن ناحية أخرى، رحّب اللواء خليفة حفتر، الذي كان قد يصبح مستبداً في ليبيا، بـ “الانتفاضة ضد جماعة «الإخوان المسلمين»»”، وأشاد بـ “القضاء على أهم عقبة في طريق التنمية [في تونس]”. بعبارة أخرى، فإن إقالة سعيّد للحكومة، وتعليق عمل مجلس النواب الذي يقوده حزب “النهضة”، وتهديد المشرعين بالملاحقة القضائية، وحظر التجمعات العامة، جميعها خطوات يمكن أن يتخذها شخص من أمثال حفتر كرئيس لليبيا ضد كتلة برلمانية خاضعة لنفوذ المشري.
ورغم أن تونس وليبيا دولتان متجاورتان، إلا أنهما بلدان مختلفان للغاية، وهناك سبب لتحوّل إحداهما إلى مثال منفرد للديمقراطية في العالم العربي، في حين انحدر الآخر إلى حرب أهلية – أو بالأحرى ثلاثة أسباب. في عام 2011، كانت تونس تتمتع أساساً بالعديد من المزايا، تمثلت في المقام الأول بمؤسسات فاعلة حالت دون انهيار الدولة، وهو ما لم تعهده ليبيا منذ سقوط حكم القذافي الذي دام 42 عاماً. ورغم أن حل الوسط الدستوري النهائي الذي قدمه الرئيس التونسي السابق قائد السبسي وزعيم حزب “النهضة” رشيد الغنوشي ليس مثالياً بالتأكيد، إلّا أنه مكّن التجربة الديمقراطية التونسية من المضي قدماً من خلال الانتخابات وعمليتي انتقال سلميتين للسلطة – وهو اختبار أساسي للديمقراطية الوليدة. وكانت انتخابات سعيّد المفاجئة عام 2019 كأستاذ قانون مستقل يتمتع بخصائص شعبية آخر مثال على ذلك. ولا يمكن العودة بالتاريخ إلى الوراء، ولكن إذا كانت الضائقة الاقتصادية وسوء الإدارة والاستجابة الضعيفة لفيروس “كورونا” في تونس أقل فظاعة، فربما لما كان لدى الرئيس سعيّد الثقة لتعليق مجلس النواب تحت ستار التفويض الشعبي.
وبغض النظر عن التفسيرات المختلفة لإجراءات سعيّد والنقاش حول كيفية الحفاظ على الديمقراطية التونسية في المرحلة القادمة، يبرز أثر واحد واضح على ليبيا: الإعداد للانتخابات يستغرق وقتاً، لا سيما بدون تفويض دستوري واضح واتفاقات حول فصل السلطات ومتطلبات المرشح. وإذا جرت الانتخابات من دون حل هذه القضايا المتنازع عليها، فقد تكون التحديات الناجمة لشرعيتها أكثر خطورة من إرجاء الانتخابات بحدّ ذاتها.
ولا يزال هناك متسع من الوقت لتلبية المتطلبات الضرورية لإجراء انتخابات حرة وآمنة في كانون الأول/ديسمبر، لكن الوقت ينفد. على “بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا” أن تدعو فوراً إلى عقد جلسة لـ “ملتقى الحوار السياسي الليبي” لمناقشة القضايا العالقة. فهذا هو المنتدى المناسب لوضع اللمسات الأخيرة على هذا النقاش على أساس “قرارات مجلس الأمن الدولي”، التي صادقت على القرار الأولي لـ “الملتقى” بشأن الانتخابات. وإذا لم تنجح “البعثة” في التوسط ضمن هذا “الملتقى”، فعلى الأمين العام أنطونيو غوتيريش التدخل من خلال الاستعانة بموارد أخرى للأمم المتحدة، من بينها الخبراء الدستوريون والوسطاء لتسوية الخلافات النهائية. وتُعتبر محاولة مجلس النواب لتحديد الدستور والنظام الانتخابي بشكل مستقل مصدر إلهاء خطير من غير المرجح أن يؤدي إلى الإجماع الضروري.
وإذا ثبت تعذر الاتفاق على دستور ونظام انتخابي بحلول أيلول/سبتمبر، فإن وضع استراتيجية انتخابية جزئية سيكون خطة احتياطية. فبعض الليبيين ينادون أساساً بانتخاب مجلس نواب جديد في كانون الأول/ديسمبر مع تأجيل الانتخابات الرئاسية إلى حين التوصل إلى حل أوضح للدستور الحالي. وبعد ذلك، سيختار البرلمان الجديد رئيساً للوزراء ستحل حكومته محل “حكومة الوحدة الوطنية” التي عيّنها “ملتقى الحوار السياسي الليبي” إلى حين يتم الاتفاق على الدستور والانتخابات النهائية. وتختلف هذه المقاربة عن وجود مجلس نواب منتخب يعين رئيساً، وهو ما تم اقتراحه خلال الجلسة الأخيرة لـ “منتدى الحوار السياسي الليبي” كوسيلة لتقليص استقلالية الرئيس وتفويضه الشعبي. وهناك بالتأكيد سلبيات لمثل هذه المقاربة لأنها تمدد الفترة الانتقالية التي تواصل شلّ الحكم في ليبيا. ولكن إذا عززت التطورات المثيرة للجدل في تونس المجاورة التطلعات نحو الديمقراطية في ليبيا، فقد تكون المقاربة الأكثر منهجية في هذه المرحلة أكثر أماناً من النهج المتسارع. وكان الليبيون مشغولين في خوض حرب أهلية في معظم العامين الماضيين، وليس مناقشة القانون الدستوري. وبحلول نهاية العام، وإذا تمكّن برلمان منتخب بحرية من استلام السلطة، واستبدال مجلس النواب الذي بالكاد يُعتبر فعالاً، وتجديد الشرعية على الأقل على المستوى التشريعي، فسيمثل ذلك تقدماً مهماً. ومن شأن تصارع عدد قليل من الشخصيات البارزة على منصب رئاسة نافذ محتمل مع وجود قيود غير واضحة أن يجعل استيلاء سعيّد على السلطة يبدو وكأنه شجار سياسي طفيف بالنظر إلى وقف إطلاق النار غير المستقر في ليبيا واستمرار وجود القوات المسلحة والمرتزقة داخل البلاد.
بين فيشمان
معهد واشنطن