قام كثيرون بنشر صور تظهر استخدام السفارة الأمريكية في كابول لمروحيّات كبيرة في عمليات إجلاء الأمريكيين (وربما بعض المسؤولين المحليين من أصحاب الجنسية الأمريكية، ومن في حكمهم) مقابل صور أخرى تشبهها لاستخدام السفارة الأمريكية في سايغون، مروحيات مماثلة خلال عمليات الإجلاء التي تبعت دخول قوات «الفيتكونغ» و«جيش الشعب الفيتنامي» عاصمة فيتنام الجنوبية في نيسان/ ابريل عام 1975، في إشارة لا تخفى إلى وجود شبه بين الحدثين، وإلى اعتبارهما الهزيمتين الكبريين في التاريخ الحديث للقوة العالمية الأعظم.
في رد على هذا التشبيه، وعلى اعتبار ما حصل هزيمة لبلاده، رفض وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، في مقابلتين مع شبكتي «سي إن إن» و«أي بي سي» أمس الأحد، المقارنة بين انسحاب الأمريكيين من أفغانستان الآن ومن فيتنام عام 1975، قائلا إن ما يجري في كابول الآن «يختلف بشكل واضح عما كان في سايغون» وأن الولايات المتحدة «حققت الأهداف التي حددتها في أفغانستان».
يحاول التصريحان المذكوران فصل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان عن معانيه، وأهمها أن القوات الأمريكية (وحلفاءها الكثر في أفغانستان) قد انهزمت فعلا وهو ما اضطرها إلى الخروج من البلاد، كما أنه يحاول تضليل مواطنيه بالقول إن الهدف من التدخل العسكري الأمريكي قد تحقق، فالذي حصل عمليا أن الهجوم الأمريكي عام 2001 كان للإطاحة بسلطة طالبان (التي رفضت تسليم زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن حينها) وأن محاولات واشنطن على مدار 20 عاما، تأسيس ودعم نظام سياسي موال لها في كابول قد انتهت إلى فشل كارثي، وأنها، بعد أطول حرب خاضتها في تاريخها، اضطرت للخروج على توقيت هجوم الحركة الأفغانية، وأن طالبان صارت على بعد خطوات قصيرة من إعادة تأسيس حكمها.
حاول بلينكن تحميل مسؤولية ما حصل على النظام السياسي الأفغاني، الذي أعلن رئيسه أشرف غني الاستقالة وفرّ إلى طاجيكستان المجاورة أمس، قائلا إن أربع إدارات أمريكية «استثمرت بمليارات الدولارات في تطوير القوات المسلحة الأفغانية، غير أن تلك القوات فشلت في التصدي لتقدم طالبان» وهو أيضا كلام لم يعد مفيدا، والمسؤولية السياسية الرئيسية فيه تعود إلى الإدارات الأمريكية المتعاقبة.
ما كان مهما أكثر، بالنسبة للأفغان (وللأمريكيين) من هدر الأموال الطائلة، سواء على القوات الأمريكية العاملة على الأرض الأفغانية، أو على تدريب الجيش وقوات الأمن الأفغانية، هو تأسيس نظام لإعادة بناء الأمة الأفغانية، وليس لمبادلة الولاء لأمريكا بالسكوت عن انتهاكاتها لحقوق الأفغان، واستخدام البلاد كشبكة فساد ماليّة لتوظيف المتعاقدين العسكريين والأمنيين.
واضح، بعد كل ما قلناه، من موجات النزوح الكبيرة للأفغانيين هربا من تقدّم الحركة، والإشارات الواضحة التي أعطتها طالبان لطريقة تعاملها المقبلة مع تعليم النساء وحقوقهن، كما فعلت بإعادة الجامعيات في إقليم هرات إلى بيوتهن، والتهديدات التي أطلقتها الدول الغربية بعقوبات على البلاد إذا استلمت الحركة الحكم، أن مصيرا صعبا ينتظر الأفغانيين، وأن العالم يترقّب بقلق ما سيحصل في أفغانستان.
من المؤكد، ضمن هذا المشهد العامّ، أن ما حصل حدث كبير ستترتب عليه أحداث إقليمية وعالمية كبيرة، وأن الأفضل للجميع، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، أخذ الدروس مما حصل، والحديث بصراحة عن الهزيمة التي تعرضت لها، بدل التلطي وراء تصريحات لا تستطيع تفسير أو تغيير الواقع.
القدس العربي