قد يكون من مفارقات التاريخ السوداء أن تسقط العاصمة الأفغانية كابل في قبضة الطالبان، وقبلها وبعدها سائر أقاليم أفغانستان، قبل أيام قليلة تسبق الذكرى العشرين لهجمات 11/9/2001 الإرهابية الشهيرة، التي كانت السبب الأول المعلن وراء قرار الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن باجتياح البلد وتقويض الإمارة الإسلامية التي أقامها الطالبان بمساندة من «المجاهدين الأفغان» عموماً ومنظمة «القاعدة» وأسامة بن لادن خصوصاً.
وليس أقل صناعة للمفارقة أن يكون زبغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر هو الذي اعتبر أن إغراق أفغانستان بالجهاديين من كل حدب وصوب بمثابة وسيلة مثلى لإرباك موسكو وإنهاك الجيش الأحمر وإجباره على الانسحاب من البلد في نهاية المطاف، وهو الذي أشرف على قيام المخابرات المركزية الأمريكية بتنفيذ الخيار على الأرض. ولم يكن انقلاب السحر على الساحر هو النتيجة الأفدح لتلك السياسة الأمريكية الخرقاء، بل كانت الأثمان الباهظة هي تلك التي دفعها الشعب الأفغاني بدمائه ومعيشته وثرواته وحرياته العامة، وزجه في اقتتال داخلي دام خاضه أمراء الحرب والقبائل والمذاهب تحت سمع وبصر قوات الاحتلال الأمريكية والجيش الحكومي الأفغاني.
وكي تتجسد أكثر مظاهر الاختلال العميق في السياسة الأمريكية الإجمالية حول الملف الأفغاني ظهرت وحدات الجيش وقوات الأمن الحكومية الأفغانية في صورة مزرية قد لا تكون لها سابقة مماثلة على مدار تواريخ الجيوش المحلية التي أقامتها قوة غازية أو محتلة، بالنظر خصوصاً إلى المليارات التي أنفقتها الولايات المتحدة على تأهيل وتدريب وتسليح هذه القوات. فهي لم تكتف بالانسحاب الطوعي والتلقائي أو إلقاء السلاح وتسليم الثكنات والقواعد والفرار المسبق فحسب، بل لقد تخلت أيضاً عن أبسط واجباتها في ضمان الأمن العام والسهر على حماية المواطنين والممتلكات. وفي واقع الأمر كيف يُنتظر من ألوية الجيش ومفارز الأمن أن تكون أفضل من آمرها الأعلى الرئيس الأفغاني نفسه، الذي ولى الأدبار مع أسرته بذريعة تجنب إراقة الدماء.
وخلال العشرين سنة المنصرمة تعاقب على إدارة الملف الأفغاني أربعة رؤساء أمريكيين، اثنان من الجمهوريين هما جورج بوش الابن ودونالد ترامب واثنان من الديمقراطيين هما باراك أوباما وجو بايدن، وبهذا يتكشف بعد آخر للسياسة الخرقاء ذاتها هو التوافق العريض العابر للحزبين، واتفاق خبراء الإدارات المختلفة على التشبث بسلسلة أوهام خادعة بصدد استكمال المهمة الأمريكية في أفغانستان. ولا يخفى هنا ما كان للحلف الأطلسي من حصة لا يستهان بها في السير خلف الخيارات الأمريكية، وفي إضافة المزيد إلى أخطائها الأصلية. وليس أدل على هذا من حال التخبط التي تبدو عليها هذه الدول ولهاثها خلف مساعي إجلاء رعاياها في ربع الساعة الأخير، وكأنها خلال الأيام القليلة الماضية لم تكن عمياء عن مسار الأمور بل متعامية عن ملاقاة عواقبها.
والأرجح أن الأسابيع القليلة المقبلة سوف تضع على المحك جوانب أخرى من سياسة واشنطن الخرقاء، حين يتوجب أن يفصح اليوم التالي عن برامج الطالبان وما إذا كانت إمارة الملا عمر سوف تُستعاد بحذافيرها أم تتجدد ضمن معطيات وتوازنات وتحالفات أكثر إرباكاً.
القدس العربي