تبحث تركيا عن مكانة لها في الساحة، وبدأت تتحول من دولة صاعدة إلى قوة إقليمية وازنة، وتقوم بتوسيع نفوذها على حساب قوى أخرى خاصة فرنسا، ما سيجعل المواجهة بينها وبين باريس مرشحة للتفاقم أكثر خلال السنوات الأخيرة متوسطيا وافريقيا، وما يترتب عنها من استقطابات وتوترات في العلاقات الدولية.
تحولت تركيا ابتداء من التسعينيات إلى دولة صاعدة اقتصاديا، وضاعفت إنتاجها القومي بشكل لافت ما بين سنتي 2000 إلى 2020 على الرغم من الأزمات الاقتصادية، سواء الفردية أو العالمية، التي تعرّض لها اقتصادها، علاوة على انتقالها إلى مصاف الدول الصناعية خلال الخمس سنوات الأخيرة.
وترتب على هذه القفزة الاقتصادية النوعية تحول تركيا إلى قوة إقليمية سياسيا وعسكريا، في منطقة شائكة وهي الشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا وشرق القارة الأوروبية. وتكاثفت عوامل مختلفة لتحقيق هذه القفزة ومنها، القوة الاقتصادية ثم العسكرية والموقع الجغرافي الاستراتيجي بامتياز، بين دول متنوعة حضاريا وثقافيا ودينيا، ويضاف إلى هذا الإرث التاريخي العثماني ووجود شخصية سياسية مثيرة للجدل بشأن توجهاتها الديمقراطية، وهو الرئيس طيب رجب أردوغان، لكن لا أحد يجادل في غيرته الوطنية، في مسعاه لجعل تركيا تبحث بإصرار عن مكان في الفضاء الجيوسياسي المباشر، مثل شرق البحر الأبيض المتوسط، وغير المباشر مثل غرب المتوسط ومنطقة الساحل الافريقي وجنوب غرب آسيا. واصطدمت تركيا نسبيا في الشرق الأوسط بدول قوية مثل إيران وإسرائيل، لكن بقيت المواجهة تحت السيطرة، وكأنها تخضع لتفاهمات سرية. ووقعت بين أنقرة ودول كبرى مثل روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا توترات وأزمات، وبقيت كذلك تحت السيطرة، على الرغم من بعض لحظات حساسة للغاية، مثل إسقاط أنقرة لطائرة عسكرية روسية منذ سنوات في حرب سوريا، أو اقتنائها للنظام الصاروخي الروسي إس 400، وما ترتب عنه من أزمة مع واشنطن، لكن المواجهة الجيوسياسية التي بدأت تخرج عن السيطرة الدبلوماسية هي التي تتفاقم بينها وبين فرنسا، ويتنوع مسرح المواجهة متوسطيا وافريقيا. ومن العناوين الدالة على هذه المواجهة كيف تعكس جرائد فرنسية كبرى مثل «لوموند» و»لوفيغارو» ثم مراكز التفكير الاستراتيجي مثل المعهد الفرنسي للدراسات الدولية، قلق باريس من ارتفاع الوجود التركي في مناطق نفوذ كلاسيكية فرنسية. وفي الاتجاه المعاكس، نجد كتابات الصحافة التركية ومعاهد التفكير الاستراتيجي مثل، المعهد التركي للقرن الواحد والعشرين بشأن الحديث عن تعزيز تركيا لنفوذها في مناطق جديدة مثل غرب المتوسط والساحل الافريقي أو افريقيا الفرنكفونية، وبالتالي نحن أمام ثنائية مضادة «القلق الفرنسي مقابل الاندفاع التركي» اللذين يلتقيان في نقطة واحدة وهي المواجهة والاصطدام.
بدأت تركيا تتحول من دولة صاعدة إلى قوة إقليمية وازنة تقوم بتوسيع نفوذها على حساب قوى أخرى خاصة فرنسا
وكان ربيع وصيف 2020 منعطفا كبيرا، حيث ارتفع ترمومتر المواجهة بين باريس وأنقرة في شرق المتوسط وفي ملفين وهما: الملف الليبي، بعد وقوف تركيا إلى جانب حكومة الوفاق الوطني، ودعم باريس للعسكري حفتر، وانتهت بانتصار تركيا، ثم في ملف التنقيب عن البترول، ووقفت باريس داعمة لليونان سياسيا وعسكريا بمدها بمقاتلات رافال. وفي الوقت ذاته، تنتقل المواجهة والتنافس، خاصة ببدء أنقرة غزو الفضاء الخاص بفرنسا في منطقتين، الأولى وهي شمال افريقيا، ثم الثانية هي منطقة الساحل الافريقي. وعلاقة بالمنطقة الأولى، تنسج تركيا علاقات متينة مع تونس والمغرب والجزائر، وتحاول تفادي دعم دولة على حساب أخرى، بالنسبة للبلدين الأخيرين. ويتجلى هذا في صفقات الأسلحة التي توقعها مع الدول الثلاث من دون شروط، ثم محاولة الرفع من الاستثمارات والمبادلات التجارية. وتجد في سعي الرباط والجزائر لتنويع الشركاء الاقتصاديين والسياسيين، خير مساعد في هذا الشأن، وتطبق الاستراتيجية نفسها في منطقة الساحل الافريقي من تشاد إلى موريتانيا.
ولعل العامل الذي يساعد تركيا على التغلغل في منطقتي شمال افريقيا والساحل الافريقي، هو قوة منتوجاتها الصناعية من جهة، ثم الصفقات العسكرية من خلال أسلحة متطورة وبأسعار رخيصة، علاوة على المساعدات بالنسبة لدول الساحل الافريقي، ويكفي فهم انفتاح دولة قريبة من الغرب وذات حساسية من النفوذ العثماني الجديد، مثل المغرب وصفقات الأسلحة التي وقعها مع أنقرة هذه السنة لإدراك خطورة تركيا على فرنسا في شمال افريقيا. والمثير هو أن التقدم التركي في هذه المناطق يكون على حساب مصالح ونفوذ قوى كبرى، وعلى رأسها النفوذ الفرنسي. ويتغذى هذا الصراع من تدهور العلاقات بين البلدين، بسبب مواقف فرنسا التي أسست لأرضية عداء حقيقي خلال العقدين الأخيرين، ومنها الفيتو الفرنسي ضد انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ثم الاعتراف الفرنسي بمجازر الأرمن، وتأييد باريس لأكراد سوريا ومساندتها لليونان في ملف التنقيب عن الغاز شرق المتوسط. إن الصراع بين فرنسا وتركيا هو صراع بين دولة تسعى جاهدة إلى الحفاظ على النظام القديم في منطقة البحر الأبيض المتوسط، أي فرنسا ودولة صاعدة وقوة إقليمية تسعى إلى كسر الهيمنة من خلال التحدي. ومن شأن هذا الصراع التسبب مستقبلا في استقطابات بارزة في البحر المتوسط والساحل الافريقي، ستكون فرنسا فيه الخاسرة ولو نسبيا بحكم أنها الدولة التي قد تفقد النفوذ الذي تتمتع به حاليا، بينما تركيا الدولة التي تسعى إلى الحصول على نفوذ لم تكن تتوفر عليه حتى الأمس القريب، والآن بدأت في الحصاد. إن انفتاح دول مثل المغرب وتونس والجزائر ثم مالي والنيجر على السلاح التركي مؤخرا، يحمل الكثير من الرسائل التي تقلق باريس كثيرا، وهو عنوان ضمن عناوين التغيير التي تطرأ في المتوسط والساحل الافريقي.
حسين مجدوبي
القدس العربي