ما زالت تصدم العالم تلك المشاهد المتسارعة لسيطرة حركة طالبان على كبرى المدن الأفغانية ودخولها العاصمة كابول دون مقاومة تذكر، وانهيار مؤسسات وأجهزة النظام الذي أقيم في ظل عشرين عاما من الاحتلال الأمريكي لهذا البلد الصعب.
إلا أن المشهد الإجمالي وبقدر ما يمكنه أن يثير الذهول إلا أنه أقرب ما يكون إلى مآل الأوضاع الذي كان يتوقعه معظم المراقبين للتطورات الأفغانية منذ سنوات طويلة.
فالتدخل الأمريكي الذي تحول من القضاء على نظام الإمارة الإسلامية التي أشرفت عليها حركة طالبان إلى محاولة إعادة هندسة بنية المجتمع والدولة الأفغانيين من الصفر لم يستطع أن يستأصل الحركة المتفرعة عن المدرسة الديوباندية في الإسلام السني الحنفي لجنوب آسيا، والتي تجمع بين حمل راية تحكيم الشريعة وبين الدفاع عن نظام الأعراف لإثنية الباشتون، الإثنية الكبرى في أفغانستان والثانية من حيث العدد في باكستان.
بل استمرت حركة طالبان طيلة هذه الأعوام تسيطر على معظم البلاد ما أن تخرج من مراكز مدنه الكبرى، ورغم أن النظام الذي نشأ في ظل الأمريكيين صرفت له الأموال الطائلة، واحتكم إلى صناديق الاقتراع، إلا أن كل هذا لم يكسبه لا الشرعية الشعبية الوطنية الفعلية ولا القدرة على حفظ رأسه، وأكثر، لم يكن لهذا النظام دور في الاتفاق الذي أبرمه الجانب الأمريكي مع حركة طالبان مطلع العام 2000 لإنهاء الاقتتال بينهما، والتعهد المتبادل باتمام انسحاب أمريكي من أفغانستان في مقابل عدم إيواء طالبان لمجموعات إرهابية.
وبالتالي، كل شيء منذ شباط – فبراير 2000 كان يعدّ العدّة للحظة الحالية. باستثناء من كان يتوقع أن يبقى النظام الموالي للأمريكيين بعد انسحابهم. ما أن أخذوا يغادرون البلد حتى انهار من تلقائه. بخلاف حالة النظام الموالي للسوفييت مثلا، فنظام نجيب الله ذاك استمر يسيطر على كابول لفترة إضافية بعد زوال الاتحاد السوفييتي نفسه.
الحدث الأفغاني كوني بامتياز. فبعد عشرين عاما من الحرب ومن أسلوب الولايات المتحدة في «زرع الديمقراطية» و«إعادة تشكيل الأمم» تبدو الحصيلة مرة، وحتى لو تقاذف الحزبان الجمهوري والديمقراطي المسؤولية، فأقل ما يقال إن اتفاق السلام المشروط بين أمريكا وطالبان وقع في عهد دونالد ترامب والانسحاب التام وتسليم كابول لطالبان حصل في عهد جو بايدن.
لكن الحدث الأفغاني له خصوصياته الإثنية المحلية أيضاً، وكيفية استعادة هذا البلد سلامه الأهلي بعد أربعين عاماً من الحروب المتواصلة تقترن بكيفية بناء التفاهم الوطيد بين مكوناته الإثنية والقبلية والمذهبية، وكيفية تطور العمران والتحديث فيه، وتراجع الفقر والبؤس ناهيك عن اجتناب الاحتكام للعنف لإدارة الخلافات والنزاعات فيه.
ولأجل ذلك، نظرة متوازنة تبقى الأفضل. فمن ناحية ظهر بشكل جلي أنه لا يمكن استئصال حركة طالبان، وأن تجذرها بين قوم الباشتون قوي، وقدرتها القتالية زادت ولم تنقص مع السنوات، فيما يبقى النقاش دائرا في مراكز البحث أو في مراكز القرار حول مدى صحة براغماتيتها، وإلى أين يمكن أن تفضي هذه البراغماتية. طالبان تبدلت؟ بالمطلق نعم. إلى أي حد؟ هذا برسم الأيام المقبلة، مع تحديد إضافي: كلما كانت أفغانستان أقل عزلة، كلما عمل المجتمع الدولي، والبلدان المحيطة لها، وبلدان الشرق الأوسط كذلك الأمر، على عدم عزل أو نبذ هذا البلد اليوم، فهذا سيعزز من نظرية «غير» طالبان.
القدس العربي