منذ مطلع عام 2012 بدأت المناطق السورية بالخروج تدريجياً من قبضة قوات النظام، وهو ما مهّد لخروج ثروات تلك المناطق من سيطرته إلى سيطرة القوى التي ظهرت لاحقاً سواء كانت موالية له أم معارضة، وهذا جعلها تستخدم تلك الثروات لتعزيز قوتها ودعم وجودها في محاولة منها للبقاء على قيد الوجود بغية فرض نفسها في أي حل تشهده البلاد مستقبلاً، وكان كل ذلك الاستنزاف على حساب السكان في مختلف مناطق النفوذ.
وللوقوف على تفاصيل هذه القوى والثروات المستنزفة، تتناول “العربي الجديد” في هذا التحقيق، الجغرافيا السورية تبعاً لمناطق النفوذ، بدءاً بتلك التي تسيطر عليها قوات النظام والمليشيات الموالية لها من إيرانية ولبنانية وأفغانية وعراقية، ومن ثم مناطق نفوذ “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، ومناطق نفوذ هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) وصولاً إلى مناطق نفوذ الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا.
مناطق نفوذ النظام السوري
يسيطر النظام السوري على 63 بالمائة من مساحة الأراضي السورية، ويعيش في هذه المنطقة أكثر من 11 مليون نسمة، وتنتشر في هذه المساحة الجغرافية العديد من المليشيات العسكرية المدعومة من إيران وروسيا إلى جانب قواته العسكرية، وقوات الدفاع الوطني التي تشكّلت من مدنيين بعد قيام الثورة بهدف الدفاع عن النظام.
سورية/اقتصاد/دمار سورية/29-12-2015 (الأناضول)
اقتصاد عربي
530 مليار دولار أحدث تقديرات خسائر الاقتصاد السوري
واعتمد قادتها في تمويل العمليات العسكرية ودفع أجور العناصر على عمليات السرقة والاستيلاء على الممتلكات العامة، ومن خلال إدارة المعابر وفرض الإتاوات.
يقول الباحث في مجال الاقتصاد خالد التركاوي، لـ”العربي الجديد”، إن المليشيات تعتمد على ثلاث وسائل في الحروب لتمويل عملياتها، منها استثمار الحرب، وهذا ما اعتمدت عليه قوات “حزب الله” اللبناني المنتشرة على طول الحدود اللبنانية ما بين محافظتي حمص وريف دمشق، والتي تسيطر اقتصادياً بشكل كامل على هذه المنطقة، وقامت أخيراً بفتح متاجر للبيع بالتجزئة والجملة لسكان المناطق انطلاقاً من مدينة الزبداني بريف دمشق إلى القصير بريف حمص.
وأشار إلى أن هذه المليشيات تدمّر ولا تبني بما يضمن لها الاستمرار لأنها تعيش في الفوضى ولا يناسبها الاستقرار، كما تعمد إلى استغلال المناطق التي تتمركز فيها، وهذا يندرج على جميع القوى العسكرية الموجودة في سورية، على حد قوله.
كما تنتشر في محافظة درعا وعلى طريق حماة – حلب الفرقة الرابعة، التي يقودها شقيق رئيس النظام ماهر الأسد، وهذه تتغذى على ضرائب العبور التي تتقاضاها جرّاء مرور القوافل التجارية.
وقال تقرير لبرنامج مسارات الشرق الأوسط في يناير / كانون الثاني 2020 إن الفرقة الرابعة استطاعت خلال سنوات الحرب السورية توسيع شبكتها الاقتصادية وجمع أموال طائلة عبر أنشطة “اقتصاد الحرب” التي قامت بها بالتعاون مع وسطاء محليين، من خلال عدد من الأنشطة، منها خدمات الحراسة والحماية المأجورة لشاحنات النقل التجاري، وإتاوات مرور البضائع والأفراد بين المناطق السورية عبر الحواجز الرسمية وغير الرسمية، إلا أن النشاط الأبرز كان تجارة الحديد والخردة ونهب الممتلكات (التعفيش).
وإلى الشمال قليلاً وتحديداً في محافظة حلب، اشتهرت مليشيا “القاطرجي” التي تأسست عام 2019 بدعم من رجل الأعمال المعروف حسام قاطرجي، وذلك لتسيير أعمال التهريب وخاصة النفط بين مناطق سيطرة “قسد” وقوات النظام، وأدرجت على لائحة العقوبات الأميركية بسبب عمليات تهريب النفط والقمح للنظام.
وذكر تحقيق نشره موقع “جسر” المعارض مطلع عام 2019 أن ثروة الإخوة قاطرجي، حسام وبراء ومحمد، تصل إلى نحو 120 مليون دولار. وأشار إلى أنهم “يملكون ويديرون مجموعة واسعة من الشركات التي تعمل في مجالات مختلفة، ويحوزون عشرات البنايات والعقارات الفاخرة، في قلب دمشق وحلب التاريخية، ويشترون النفط والقمح من داعش وقسد على حدّ سواء، ويستوردون البضائع من تركيا، وتخترق قوافل شاحناتهم خطوط الصراع الملتهبة بمنتهى اليسر”.
اللاذقية سورية-اقتصاد-13-9-2016 (لؤي بشارة/ Getty )
اقتصاد عربي
إيران تعزز حضورها في قطاعات الاقتصاد السوري
وفي مدينتي البوكمال والميادين بريف دير الزور، تنشط هناك مليشيات “الحرس الثوري” الإيراني وفاطميون الأفغانية وزينبيون الباكستانية إضافة إلى مجموعات من الحشد الشعبي العراقي، وهذه تعتمد على تمويل عملياتها داخل سورية على التهريب ما بين سورية والعراق، وفرض الإتاوات على السكان، والاستيلاء على عقارات المنطقة وبيعها.
وقالت مصادر خاصة لـ”العربي الجديد” إن هذه المليشيات استولت على معظم منازل حي “التمو” في مدينة الميادين، كما بنت مزاراً في منطقة عين علي وأسمته “ماء الرضوان المقدس” وفرضت رسماً قيمته 20 دولاراً على كل زائر.
“قسد” تسيطر على ربع الأراضي
تسيطر “قوات سورية الديمقراطية” على 25 بالمائة من الأراضي السورية وهي المنطقة الأغنى على صعيد النفط، وتعتبر سلة سورية الغذائية لوفرة القمح فيها، وتتوّزع هذه المناطق على محافظات حلب والرقة والحسكة ودير الزور، ويبلغ إنتاج الآبار التي تسيطر عليها هذه القوة نحو 350 ألف برميل يومياً، تنتج منها “قسد” 100 ألف برميل بطرق بدائية.
وفي إبريل/نيسان الفائت كشف مسؤول منشق عن الإدارة الذاتية التي تعتبر الغطاء السياسي لـ”قسد” يدعى نضال إيبو عن أن القوات تحصل شهرياً على 120 مليون دولار شهرياً من عائدات النفط فقط، وأشار إلى أنها تبيع الفائض من النفط لمندوبين من قبل النظام السوري، وآخرين ينقلونه إلى مناطق سيطرة الجيش الوطني المعارض.
وتستفيد “قسد” أيضاً من القمح الموجود في مناطقها، وكانت قد هرّبت كميات كبيرة منه إلى العراق بسبب ارتفاع الأسعار هناك، وتوقّع سلمان بارودو الرئيس المشارك لهيئة الاقتصاد والزراعة في “الإدارة الذاتية” خلال حديث مع لـ”العربي الجديد”، في مايو / أيار الفائت أن إنتاج القمح هذا العام سيتراوح في مناطق شمال وشرق سورية بين 500 و600 ألف طن، وهذا يمثل نحو نصف إنتاج سورية الذي تراجع في عام 2018 إلى أدنى مستوى له ليسجل 1.2 مليون طن، بحسب إحصائيات وزارة الزراعة التابعة للنظام.
هيئة تحرير الشام
تتقاسم هيئة تحرير الشام وفصائل الجيش الوطني نحو 10 بالمائة من مساحة سورية وتمتد على محافظات إدلب واللاذقية وحماة وحلب والرقة والحسكة، وتستفرد الهيئة وحدها بمحافظة إدلب وأجزاء صغيرة من محافظات حماة وحلب واللاذقية، كما تستحوذ في الوقت نفسه على جميع مقدّرات هذه المنطقة وتستأثر بالتجارة والخدمات كالاتصالات والمياه والكهرباء وإدارة المعابر.
الليرة السورية (Getty)
اقتصاد عربي
الأسد يطيح رئيس الوزراء وسط تدهور الليرة والاقتصاد السوري
كشفت شبكة “شام” الإخبارية في تحقيق أعدته عام 2018 أن عائدات الهيئة من معبر باب الهوى من التجارة وصلت شهرياً إلى أكثر من أربعة ملايين دولار، وكل ذلك لقاء تنظيم عمل الشاحنات التي تحمل البضائع والمساعدات الإنسانية الخاصة بالتجار والمنظمات الإنسانية، وأشار التحقيق إلى أن الهيئة تفرض إتاوات على المنظمات العاملة في المنطقة، والتجار وتحتكر كبريات الصناعات والمؤسسات الربحية.
أما الذراع الاقتصادية الثانية للهيئة فهي شركة وتد للبترول التي تحتكر تجارة المحروقات في إدلب، وتستورد المشتقات النفطية من تركيا ومناطق سيطرة “قسد”، ولا يوجد إحصاءات معلنة لرأس مال هذه الشركة، لكنها توزّع المحروقات لأربعة ملايين نسمة في إدلب، إضافة إلى المنظمات والشركات العاملة في المنطقة عبر محطات تابعة لها تنتشر في الشمال السوري.
نفوذ الجيش الوطني
يسيطر الجيش الوطني على منطقة عفرين ومدن الباب وجرابلس وأعزاز بريف حلب ومدينة تل أبيض في الرقة ورأس العين في الحسكة، وتتسم مناطق سيطرته بالفوضى المالية التي تشبه مناطق سيطرة النظام على عكس مناطق سيطرة “تحرير الشام” و”قسد” بحسب الباحث خالد التركاوي.
وتوجد في هذه المناطق ثلاثة موارد رئيسية هي عائدات استيراد مشتقات النفط من مناطق سيطرة “قسد” والضرائب على الشاحنات التجارية القادمة من معبر باب السلامة مع تركيا، وعوائد إنتاج الزيتون الذي تشتهر به منطقة عفرين، التي وضع متنفّذون في الجيش الوطني أيديهم على كثير من بساتينها.
تنتج عفرين ثلث زيت الزيتون السوري، ويقدّر عدد أشجار الزيتون فيها بنحو 18 مليون شجرة، ونقل موقع صحيفة بابليكو الإسبانية عام 2019 عن مصادر محلية أن زيت المنطقة بيع ذلك العام بنحو 70 مليون يورو.
ويقول الباحث في مركز جسور وائل علوان، لـ”العربي الجديد” إن هذه القوى العسكرية اعتمدت على هذه الثروات في تقوية كياناتها وخاصة “قسد” والمليشيات الكبرى المنتشرة في مناطق سيطرة النظام.
سورية/سياسة/14/9/2019
اقتصاد عربي
هكذا أضرت وزارة الاقتصاد السورية بالتجار والليرة
وأشار علوان إلى أن مليشيات النظام لم تكتف بهذه الثروات، بل لجأت إلى المتاجرة بالآثار السورية، وهذا الملف سيشكّل عبئاً كبيراً على الدولة السورية في المستقبل، وسيتطلّب منها عشرات السنوات للبحث عنها واستعادتها.
وأكّد تقرير صادر عن مؤسسة “جيردا هنكل” الألمانية وجمعية “حماية الآثار” في فرنسا، أعده الأكاديمي السوري شيخموس علي، حول أحوال المتاحف السورية عام 2020، سرقة آلاف القطع الأثرية من قبل متنفذين يتبعون للنظام السوري، إضافة إلى تحويل عدد من المواقع الأثرية إلى ثكنات عسكرية.
وتبقى هذه الممارسات دون رادع والسكان المدنيون هم المتضرر الوحيد على اختلاف مناطق السيطرة، إذ إن كل قوة هي الدولة الحاكمة في منطقتها، وفي مناطق سيطرة النظام لم تعد لقواته سلطة على تلك المليشيات لأنه هو من أطلق يدها عندما كان بحاجتها لقمع الاحتجاجات السلمية ووقف هجمات الجيش الحر التي وصلت إلى أطراف المدن الكبرى كدمشق وحماة واللاذقية. وانعكس تقاسم المسلحين لثروات سورية سلبا على المواطنين الذين تفاقمت أوضاعهم المعيشية وباتوا في فوهة الغلاء والبطالة، وألقي المزيد منهم في مستنقع الفقر.
العربي الجديد