عقد الرئيس الأميركي، جو بايدن، في البيت الأبيض في 27 آب/ أغسطس 2021، أول لقاء قمة يجمعه برئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينت. وكان الأخير قد نجح، في حزيران/ يونيو 2021، في تشكيل حكومة ائتلافية هشّة، هدفها التخلص من رئيس الوزراء السابق، بنيامين نتنياهو، الذي توترت في عهده العلاقة مع إدارة بايدن والديمقراطيين. وقد ركّزت المحادثات بينهما على الملف النووي الإيراني، والمساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل، في حين احتل ملف المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية مكانةً هامشيةً في اللقاء.
أولًا: الملف النووي الإيراني
لم يخفِ بينت أن هدف زيارته الرئيس واشنطن إقناع بايدن بالتخلي عن محاولات إحياء الاتفاق النووي مع إيران، والاستمرار في العقوبات عليها، والتي كانت إدارة دونالد ترامب أعادت فرضها عام 2018. ويرى أن رفع العقوبات أو تخفيفها سيمكّن إيران من تسريع برنامج التخصيب والاقتراب من صنع قنبلة نووية، فضلًا عن إتاحة مزيد من الموارد لها للمضي في جهود “زعزعة استقرار المنطقة ودعم أعداء إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية فيها”. وأعلن أن إسرائيل تملك استراتيجيةً لمنع إيران من تطوير برنامجها النووي، سيسعى إلى إقناع بايدن بها.
وعلى الرغم من أن إدارة بايدن ما زالت ترى أن الاتفاق النووي هو السبيل الأفضل لتقييد نشاطات إيران النووية، فإن احتمالات إحياء الاتفاق تراجعت في الأسابيع الأخيرة، فطهران تصر على رفع العقوبات الاقتصادية، قبل الحديث عن التزاماتها النووية بموجب الاتفاق. في المقابل، تصرّ واشنطن على أن تكون العودة إلى الالتزامات التي ينصّ عليها الاتفاق متزامنة، وأن تقبل طهران بإعادة النظر في الجداول الزمنية لاتفاق عام 2015 وتمديدها، فضلًا عن ضرورة أن تشمل المفاوضات برنامج إيران لتطوير الصواريخ الباليستية، ودعمها حركات ومليشيات مختلفة في أنحاء المنطقة.
تقوم إيران حاليًا بتخصيب كمية صغيرة من اليورانيوم بنسبة تصل إلى 63 في المئة، وهي نسبة تقل بقليل عن مستوى التخصيب الذي يمكّنها من إنتاج سلاح نووي (90 في المئة)
وتقوم إيران حاليًا بتخصيب كمية صغيرة من اليورانيوم بنسبة تصل إلى 63 في المئة، وهي نسبة تقل بقليل عن مستوى التخصيب الذي يمكّنها من إنتاج سلاح نووي (90 في المئة)، في حين أن النسبة التي كان حددها اتفاق عام 2015 هي 3.67 في المئة. كما قامت طهران بعد انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق، وإعادة فرض العقوبات الاقتصادية عليها، بإنتاج أجهزة طرد مركزي أكثر عددًا وتقدّمًا مما تسمح به نصوص الاتفاق؛ ما يقلص، بحسب إدارة بايدن، الوقت المحتمل لإنتاج ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع سلاح نووي إلى أشهر، وربما حتى أسابيع. كما تخشى واشنطن من تشدّد إيراني أكبر في المفاوضات في ظل الرئيس الجديد، إبراهيم رئيسي.
بناء على ذلك، تتبلور تقديراتٌ داخل إدارة بايدن بأن احتمالات العودة إلى الاتفاق النووي مع طهران تتضاءل، وهو ما حاول بينت الاستثمار فيه خلال زيارته واشنطن. وفي إشارة إلى التفجير الانتحاري الذي نفذه تنظيم داعش، مستغلًا فوضى عملية الانسحاب في مطار كابول، وأدّى إلى مقتل 175 شخصًا، بينهم 13 جنديًا أميركيًا، قال بينت: “توضح هذه الأيام بالذات كيف سيبدو العالم إذا حصل نظام إسلامي متطرّف على سلاح نووي. سيكون ذلك المزيج كابوسًا نوويًا للعالم بأسره”. ويبدو أن إدارة بايدن، وإن كانت ترى في العودة إلى الاتفاق النووي، مع بعض التعديلات، الخيار الأفضل، فإنها تسعى أيضًا إلى تطمين إسرائيل بأن ذلك لن يكون خيارًا مفتوحًا، ولا بأي ثمن. وخلال المؤتمر الصحافي المشترك مع بينت، التزم بايدن بعدم السماح لإيران بتطوير سلاح نووي، “ولكننا نضع الدبلوماسية أولًا، ونرى إلى أين سيقودنا ذلك”. وفي حال “فشلت الدبلوماسية فنحن مستعدّون للانتقال إلى خياراتٍ أخرى”، من دون أن يقدّم أي توضيحاتٍ حول ما يعنيه بذلك.
تتبلور تقديراتٌ داخل إدارة بايدن بأن احتمالات العودة إلى الاتفاق النووي مع طهران تتضاءل
في المقابل، وعلى عكس سلفه نتنياهو، حرص بينت على عدم الظهور بمظهر من يتحدّى الرئيس الأميركي، فعبّر عن سعادته بمقاربة بايدن التي لا تجعل المسار الدبلوماسي خيارًا وحيدًا ومفتوحًا، لكنه أعلن أيضًا أن حكومته طوّرت “استراتيجية شاملة” لاحتواء إيران، بهدف وقف ما أسماه عدوانها الإقليمي “وتحجيمها” وإفقادها “القدرة على تطوير سلاح نووي على نحو دائم”. ووفقًا للخطة الإسرائيلية التي أعلن بينت عن بعض تفاصيلها قبل اجتماعه ببايدن، فإنها ستشمل تعزيز العلاقات مع الدول العربية المعارضة لنفوذ إيران الإقليمي وطموحاتها النووية، واتخاذ إجراءات دبلوماسية واقتصادية ضدها، ومواصلة الهجمات الإسرائيلية السرّية عليها. ويطلق مسؤولون إسرائيليون على هذه الخطّة استراتيجية “القتل بالتجريح”، وهي كناية عن استنزاف إيران بضربات متكرّرة محدودة، ولكن موجعة تنهكها.
ثانيًا: المساعدات العسكرية
لم يشذّ بايدن عن الرؤساء الأميركيين الذين سبقوه في تأكيد “الالتزام الأميركي الذي لا يتزعزع بأمن إسرائيل”، وضمان تفوقها “العسكري النوعي” في الشرق الأوسط. ونجح بينت، خلال زيارته واشنطن، في الحصول على دعم أميركي لطلب تجديد نظام القبة الحديدية الذي تعتمد عليه إسرائيل في التصدّي للصواريخ التي تنطلق من قطاع غزة وجنوب لبنان، بقيمة مليار دولار من التمويل الطارئ. ويحتاج هذا الأمر إلى موافقة الكونغرس، وهي شبه مضمونة. وكانت إدارة بايدن وافقت، في أيار/ مايو 2021، خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بيع إسرائيل أسلحة وذخائر بقيمة 735 مليون دولار. وشملت الاتفاقات الأمنية الأخيرة بين الطرفين، كما أعلن وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، التعاون في مجالات الدفاع الجوي والصاروخي ومواجهة أنظمة الطائرات من دون طيار، و”ضمان قدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها ضد تهديدات إيران ووكلائها”.
لم يشذّ بايدن عن الرؤساء الأميركيين الذين سبقوه في تأكيد “الالتزام الأميركي الذي لا يتزعزع بأمن إسرائيل”
وبحسب مذكرة تفاهم بين إدارة باراك أوباما وحكومة نتنياهو، عام 2016، رفعت الولايات المتحدة قيمة مساعداتها العسكرية السنوية لإسرائيل، بدءًا من عام 2019 حتى نهاية عام 2028، من 3.1 مليارات دولار سنويًا إلى 3.8 مليارات دولار سنويًا، إضافة إلى خمسة مليارات دولار لتطوير أبحاث مواجهة الصواريخ الباليستية.
ثالثًا: محادثات السلام الفلسطينية – الإسرائيلية
كان لافتًا غياب أي إشارة ذات معنى من بايدن إلى مفاوضات السلام الفلسطينية – الإسرائيلية في افتتاح اللقاء، في حين تجاهل بينت الملف تمامًا. وجاءت إشارة الرئيس الأميركي اليتيمة خلال المؤتمر الصحافي المشترك موجزة جدًا، ومن دون حديثٍ عن حل الدولتين أو ضرورة وقف الاستيطان أو تجميده في الضفة الغربية؛ إذ اكتفى بالقول إنه يريد مناقشة “سبل تعزيز السلام والأمن والازدهار للإسرائيليين والفلسطينيين”. ويرشح من المصادر الإسرائيلية أن بايدن طالب بينت بدعم السلطة الفلسطينية ماليًا، والعمل على تخفيف المعاناة اليومية للفلسطينيين من الناحية المعيشية.
ورغم تأكيد بايدن، غير مرة في الماضي، أنه مع حل الدولتين، وهو الذي ابتعد عنه ترامب خلال سنوات رئاسته الأربع، فإن بينت لا يتبنّى هذا الموقف. وثمَّة اعتقاد أن إدارة بايدن لن تضغط على بينت في موضوع استئناف محادثات السلام مع الفلسطينيين، أو مطالبة إسرائيل بتجميد التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية والقبول بحل الدولتين، بحجة أن تحالف بينت الحكومي هشّ جدًا، وأي ضغط عليه في هذا الاتجاه قد يؤدّي إلى انهيار حكومته وعودة نتنياهو.
غياب أي إشارة ذات معنى من بايدن إلى مفاوضات السلام الفلسطينية – الإسرائيلية
وكان بينت، وهو أول رئيس وزراء إسرائيلي متدين، وزعيم استيطاني سابق، قد استبق أي ضغوط أميركية محتملة قبل سفره إلى واشنطن بإعلان رفضه القاطع قيام دولة فلسطينية، أو تجميد أعمال الاستيطان في الضفة الغربية، رغم تأكيد التزامه بعدم ضمِّ أي أجزاء من الضفة الغربية وبسط السيادة الإسرائيلية عليها؛ ليس لأنه يعارض ذلك، بل لأن مثل هذه الخطوة لا تحظى بإجماعٍ داخل حكومته الائتلافية الضيقة والمعقدة التركيب. وبالنسبة إلى الحصار القائم على قطاع غزة، أعلن بينت أنه لن يرفعه ما دامت حركة حماس تعمل على تسليح نفسها، كما أنه لن يتردّد في شنِّ عدوان جديد في حال استمر إطلاق الصواريخ من القطاع، حتى لو أدّى ذلك إلى فقدان حكومته دعم النواب العرب الأربعة، ومن ثمّ تفكّكها. ويتبلور داخل ائتلافه توجّه لتجنب قضايا “الحل الدائم”، والعمل على ما يسمّى تقليص الصراع “تحسين ظروف حياة الفلسطينيين” وتقليل مظاهر الاحتلال إلى الحد الأدنى في المناطق AوB مع تكثيف الاستيطان في المنطقة C. وهي ممارسةٌ تشبه روح ما سُمّي في حينه صفقة القرن، ولكن من دون اتفاقيات رسمية.
ويبدو أن تهميش القضية الفلسطينية يتماشى مع تراجعها ضمن أولويات بايدن في هذه المرحلة، وهو الذي يركز أكثر على أفغانستان وإيران والتعامل مع التحدّيات التي تمثّلها كل من الصين وروسيا.
رابعًا: إعادة ضبط العلاقة الثنائية
لم يخفِ الحزب الديمقراطي في السنوات الأخيرة غضبه من سياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، نتنياهو، ومواقفه. ومنذ عام 2009، اصطدم نتنياهو بالديمقراطيين وتحدّى إدارتهم غير مرة بخصوص مفاوضات السلام والاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية. بل تدخّل على نحوٍ غير مباشر لصالح المرشح الجمهوري، ميت رومني، ضد أوباما في الانتخابات الرئاسية عام 2012. وفي عام 2015، أثار نتنياهو حنق إدارة أوباما، والديمقراطيين بعامةٍ، حينما قبل دعوة من قيادة الجمهوريين في الكونغرس، وألقى خطابًا تحريضيًا ضد الاتفاق النووي مع إيران، والذي كان أوباما يعدّه أحد أهم إنجازاته في السياسة الخارجية.
وخلال سنوات ترامب في البيت الأبيض، انحاز نتنياهو كليًا إليه، واختزل العلاقة الأميركية – الإسرائيلية بالحزب الجمهوري. وقد أدّى ذلك إلى تراجع الدعم الذي تحظى به إسرائيل داخل أوساط الحزب الديمقراطي، وتحديدًا بين صفوف الشباب والتيارات التقدمية والليبرالية. وهكذا، بدا أن إسرائيل قد تتحوّل إلى قضية حزبية في أروقة الكونغرس، بعد أن كانت سبعة عقود قضية فوق حزبية، وتحظى بشبه إجماع سياسي أميركي.
ومع هزيمة ترامب في الانتخابات عام 2020، وتسلّم بايدن الرئاسة مطلع عام 2021، كان واضحًا التوتر بين الإدارة الجديدة وحكومة نتنياهو. وكان بايدن قد وصف نتنياهو خلال حملته الرئاسية بأنه “زعيم يميني متطرّف”، وبأن وجوده “غير مفيد”. ولم يبادر الرئيس الأميركي إلى الاتصال به إلا بعد قرابة شهر من تسلمه الرئاسة. وكان مساعدو بايدن يخشون أن يسعى نتنياهو إلى محاولة تعطيل أجندة بايدن في ما يتعلق بالاتفاق النووي مع إيران.
لم يخفِ الحزب الديمقراطي في السنوات الأخيرة غضبه من سياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، نتنياهو، ومواقفه
ومع سقوط حكومة نتنياهو في حزيران/ يونيو 2021، بادر بايدن إلى الاتصال ببينت مهنئًا خلال ساعتين فقط من أدائه اليمين الدستورية. وحرص بينت، الذي لا يقل يمينية عن نتنياهو، على الابتعاد عن المشاحنات والنهج التصادمي الذي تبناه نتناهو في علاقته بأوباما وبايدن، خصوصًا حول الملف النووي الإيراني. وعند اجتماعه ببايدن، أعلن أنه يحمل معه “روحًا جديدة من النيات الطيبة والأمل” في العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة. أما بايدن فقد أشاد ببينت ووصفه بأنه “صديق مقرّب”، وبأنه “يرأس أكثر الحكومات تنوّعًا في تاريخ إسرائيل”. وفي دلالةٍ على النهج الجديد في العلاقات الثنائية بين البلدين، سمحت حكومة بينت باستئناف التعاون الاستخباراتي مع واشنطن بالمستوى نفسه الذي كان عليه قبل أن يأمر نتنياهو بتقليصه في الربيع الماضي.
خاتمة
رغم أن القمة الأميركية – الإسرائيلية جاءت في ذروة أزمة الانسحاب من أفغانستان، فإنها مثّلت مناسبة استغلها الرئيس جو بايدن لتجديد التزام إدارته بأمن الحلفاء، وخصوصا منهم إسرائيل. في المقابل، حصل نفتالي بينت على الدعم العسكري والسياسي الذي أراده، وتمكّن على ما يبدو من إقناع بايدن بأن أي ضغوط على حكومته بشأن القضية الفلسطينية ستؤدي إلى تفكّكها، وعودة نتنياهو إلى الحكم؛ وهو ما لا تريده واشنطن، في هذه المرحلة على الأقل. لكن هذا لا يعني أن العلاقات بين الطرفين ستبقى دافئةً بالضرورة. وتدرك إدارة بايدن أن بينت قد يكون أشدّ رئيس وزراء يميني تطرفًا في تاريخ إسرائيل، وبأن ثمّة أوساطًا متزايدة من القاعدة اليسارية للحزب الديمقراطي، وبين الشباب عمومًا، ترى أن “إسرائيل أصبحت من أكثر الدول يمينية في العالم المتقدّم”، وأن هذا سيؤدّي “حتمًا إلى تعقيد العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، بغض النظر عما يريد قادة الدولتين قوله علنًا”، رغم مقاومة مؤسسة الحزب التقليدية لهذه النزعات النقدية المتنامية عند الشباب.
العربي الجديد