شكّل مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة، وتوقيع شركة توتال الفرنسية عقود أربعة مشاريع عملاقة تتعلق بالطاقة مع وزارة النفط العراقية بقيمة تصل إلى 27 مليار دولار، فرصة متجددة للحديث عن طبيعة الدور الفرنسي في العراق، وعن العلاقات المستقبلية بين البلدين، لاسيما أن زيارة الرئيس ماكرون للعراق تكررت مرتين في أقل من سنة (كانت الزيارة الأولى في بداية أيلول/ سبتمبر والثانية في نهاية آب/ أغسطس2020).
تاريخيا، أنشئت أول قنصلية فرنسية في البصرة عام 1679، وافتتحت القنصلية الفرنسية في بغداد عام 1739، وهي أول قنصلية أجنبية تُفتتح في بغداد حينها (لم تفتتح قنصلية بريطانية في العراق الى عام 1776). وقد ظلت العلاقات العراقية الفرنسية في حدها الأدنى منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 حتى بداية السبعينيات، وظل العراق ضمن الحصة البريطانية، قبل أن تدخل الولايات المتحدة، بشكل محدود، على الخط، عبر الحلف المركزي/ حلف بغداد الذي أعلن في 1955. وبعد ثورة/ انقلاب تموز 1958 أصبح العراق أقرب إلى الاتحاد السوفييتي، واستمر هذا التقارب بعد ثورتي/ انقلابي 1963، ليتكرس بعد ثورة/ انقلاب عام 1968 من خلال اتفاقية الصداقة والتعاون بين البلدين التي وقعت عام 1972.
في الوقت نفسه كانت هناك رغبة صريحة لدى أحمد حسن البكر/ صدام حسين لبناء علاقات استراتيجية مع فرنسا، كنوع من التوازن في العلاقات مع الاتحاد السوفيتي، خاصة وان العلاقات العراقية البريطانية، والعراقية الأمريكية، حينها، كانت في أسوأ حالاتها. لأجل ذلك دعا العراق رئيس الوزراء الفرنسي الاشتراكي جاك شيراك لزيارة العراق عام 1974 للتفاوض حول التعاون في مجال الطاقة والمجال العسكري، لتتوج هذه العلاقة بزيارة صدام حسين إلى باريس عام 1975، وليشهد عقد الثمانينيات تعاونا عسكريا واقتصاديا واسعا بين العراق وفرنسا.
لكن العلاقات العراقية الفرنسية شهدت جمودا شبه تام بعد الغزو العراقي للكويت عام 1990، واستمر هذا الجمود إلى لحظة الغزو الأمريكي/ البريطاني للعراق عام 2003، مع أن النظام العراقي حينها، حاول أن يكسر هذا الجمود عبر الطلب من شركة توتال تطوير حقل مجنون النفطي (يبلغ احتياطي هذا الحقل 38 بليون برميل) في النصف الثاني من عقد التسعينيات، إلا ان ذلك لم يسهم في إعادة العلاقات كما كانت، مما أضطر العراق لإلغاء هذا الاتفاق عام 2002.
الموقف الفرنسي من الشأن العراقي، لا يزال غامضًا وغير واضح، ويبدو مجرد تابع للموقف الأمريكي المختل والعائم، خلافًا للموقف الفرنسي الواضح من الشأن اللبناني مثلا!
بعد 2003، لم يكن للفرنسيين أي دور في العراق، وعدّت فرنسا العراق منطقة نفوذ أمريكية خالصة لا يمكن لها المنافسة فيها، ومع هذا حاولت فرنسا في حقبة ساركوزي الاعتماد على سفيرها «جيمس بوند العالم الدبلوماسي» المثير للجدل بوريس بويون (2009 ـ 2011) أن تجد لنفسها موطئ قدم في العراق، لكن المحاولة انتهت إلى فشل ذريع بعد أن أصبح بويون نفسه شريكا في الفساد العراقي حيث تحول نموذج الفساد العراقي إلى نموذج عالمي (تم القبض على بويون عام 2013 وبحوزته ما يقرب من 400 ألف يورو حصل عليها كعمولات لأعمال في العراق)!
إن متابعة المواقف العراقية المتباينة بشأن طبيعة العلاقات العراقية الفرنسية، وإمكانياتها المستقبلية، تكشف عن ثلاثة مواقف أساسية:
الموقف الأول، وهو موقف الأكثرية، كان موقفا متفائلا بإفراط، يرى أن زيارة الرئيس الفرنسي هي بداية انخراط فرنسي في الشأن العراقي سياسياً واقتصادياً، ومن شأنه أن يساعد العراق على استعادة دوره الدولي من خلال البوابة الفرنسية
الموقف الثاني هو موقف وكلاء/ حلفاء ايران في العراق المعارض لأي موقف فرنسي في العراق، وكانت زيارة الرئيس الفرنسي للموصل عاملاً حاسماً في زيادة حدة موقف هؤلاء، خاصة بعد تصريحات المتحدث باسم الخارجية الإيرانية التي قال فيها انه لولا ايران وحلفائها/ وكلائها في العراق لما استطاع الرئيس ماكرون زيارة الموصل!
والموقف الثالث يرى أن مشاركة فرنسا في مؤتمر بغداد كانت بطلب من الولايات المتحدة الأمريكية، بسبب عدم استعدادها للمشاركة في هذا المؤتمر إلى جانب إيران. وأن هذا الدور الفرنسي مؤقت ومرتبط بنتائج المفاوضات النووية بين الولايات المتحدة وإيران.
بالنسبة لي ما زلت أرى أن الموقف الفرنسي من الشأن العراقي، لا يزال غامضًا وغير واضح، ويبدو مجرد تابع للموقف الأمريكي المختل والعائم، خلافًا للموقف الفرنسي الواضح من الشأن اللبناني مثلا! ويبدو أنه مجرد تابع للموقف الأمريكي، ولا تزال فرنسا تتعامل مع العراق من خلال الحكومة العراقية بشكل حصري، وهي تعلم جيداً أن موقف الحكومة العراقية يعكس موقف الفاعلين السياسيين الشيعة على وجه الخصوص، ولا يعكس موقفاً متفقا عليه بين الفرقاء العراقيين جميعا. كما أن موقف الحكومة اللبنانية الحالية يعكس موقف رئيس الجمهورية المتحالف مع حزب الله، ولا يعبر عن موقف الأطراف اللبنانية جميعا. مع ذلك يمكن لفرنسا أن تقوم بدور كبير في العراق إذا ما حاولت التعامل مع جميع الأطراف العراقية بطريقة متوازنة، وحاولت إقناع الأطراف المهيمنة على السلطة في العراق، عبر موقعها الأوربي والدولي، بأن الاحتكار الأحادي للسلطة لن يؤدي إلا إلى تفاقم الوضع في العراق. وأن سيناريو داعش في الجغرافيا السنية، وسيناريو الاستفتاء في إقليم كردستان قد يتكرران مرة اخرى. وأن تقاسم السلطة هو السبيل الوحيد الذي يقود العراق إلى استقرار مستدام.
القدس العربي