منذ نهاية الحرب الباردة مطلع تسعينات القرن الماضي، لم يشهد العالم استقطاباً حاداً في اختبارات القوة وحدود النفوذ بين اللاعبين الدوليين الكبار كالذي يحدث الآن في الأزمة السورية.
في المبادرة الروسية بالسلاح والدبلوماسية لتغيير حسابات القوة على الأرض، أهداف واضحة ووسائل تزكي توسيع أدوارها في أي تسوية محتملة.
وفي اضطراب الاستراتيجية الأمريكية شكوك عميقة في قدرتها على مواجهة التحدي الروسي، بما يتجاوز شن حملات إعلامية وسياسية تشكك في جدوى العمليات العسكرية وتنال من أهدافها. بين السلاح والسياسة والإعلام حسابات متضاربة ومصالح كبرى. هناك سؤالان رئيسيان في كل هذه الحسابات التي تحكمها مصالحها.
* الأول: ماذا بعد «بشار الأسد». وأي أوضاع يمكن أن تستقر عليها سوريا من الناحيتين الاستراتيجية والسياسية؟
جوهر السؤال لا يتعلق بشخصه ومصيره، فهو في نهاية المطاف سوف يغادر منصبه بسيناريو أو آخر، بقدر ما يعكس صراعاً ضارياً على المصير السوري كله.
* الثاني، ماذا بعد «داعش». وأي ترتيبات استراتيجية ممكنة على خرائط الإقليم الأكثر اشتعالاً في العالم؟
وجوهر السؤال يدخل في مجاله صراعات على النفوذ والقوة والمصالح تمتد من سوريا إلى دول مجاورة في المشرق العربي واصلة تأثيراتها إلى مصر وإيران وتركيا والخليج.
في الأزمة السورية تتحدد الخطوط العريضة لصورة المستقبل في الإقليم وموازين القوى التي سوف تحكمه حقباً طويلة مقبلة.
دخول روسيا على خط الأزمة بحجم لم يكن متوقعاً تعبير صريح عن تصوراتها لأدوارها في عالم يتغير وتعويم لأوزانها ك«دولة عظمى» لها كلمتها النافذة في أي ترتيبات محتملة في الإقليم أو في أي أقاليم أخرى. قوة حضور لها تداعياتها في الأزمة الأوكرانية الأكثر أهمية بحسابات الأمن القومي المباشر. وفي إطلاق بوارج أسطولها البحري صواريخ بعيدة المدى من بحر قزوين مروراً بالمجالين الجويين الإيراني والعراقي إلى مواقع داخل سوريا رسالة سياسية أكثر منها عسكرية.
من الناحية العسكرية، فإن الغارات المكثفة التي تضرب مواقع «داعش» و«النصرة» ومنظمات أخرى متباينة لإفساح المجال أمام تقدم بري للجيش السوري لا تحتاج إلى دعم إضافي من على بعد ألف وخمسمئة كم.
ما جرى بالضبط استعراض سياسي بقوة السلاح بالقرب من أوكرانيا، والرسالة إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قبل الإقليم ودوله.
جرّ العالم إلى الحافة مجازفة محسوبة تعتمد على إخفاق الاستراتيجية الأمريكية في محاربة «داعش»، حيث يرتبك الرئيس الأمريكي «باراك أوباما» ويتقدم نظيره الروسي «فلاديمير بوتين». وحيث يغير الأخير من الحقائق على الأرض فإن القادة الأوروبيين يكتفون بتسجيل الاحتجاجات أمام الكاميرات. فرنسا لا تقبل دمج «قوات المعارضة المعتدلة» في الجيش السوري الذي ارتكب مجازر بحقها على ما يقول الرئيس فرانسوا هولاند.
وبريطانيا تتحدث عن دور لها في سوريا من دون أن يقول رئيس حكومتها «ديفيد كاميرون» كيف، أو يجيب عن سؤال لماذا أخفق التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة على هذا النحو الذريع.
الميديا الغربية انخرطت في حملة ضد روسيا كأنها أوركسترا، من دون أن يكون لديها ما تقوله للرأي العام عن كيفية الخروج من الأزمة السورية التي أفضى بعض نتائجها المأساوية إلى تدفق مئات الألوف من المهاجرين إلى بلدانها. وفي كل المساجلات السياسية والإعلامية بين الأطراف الدولية المتنازعة هناك حقيقتان.
الأولى: أن الأزمة السورية عقدة أزمات الإقليم كله وبلا حل لها يستحيل دحر «داعش» في العراق أو أي مكان آخر.
والثانية: إن مصير «الأسد» عقدة هذه الأزمة المستحكمة.
تفكيك «عقدة الأسد» عنوان أي تسوية محتملة. من غير الممكن عودة سوريا إلى الوضع الذي كانت عليه قبل أربع سنوات.
هذه مسألة منتهية. ومن غير المتاح استبعاده وفق حقائق القوة الدولية والإقليمية والداخلية. وهذه مسألة لم يعد ممكناً تجاهلها.
بالنسبة إلى «بوتين» فإن «الأسد» ليس هو صلب القضية السورية، وقد ألمح أكثر من مرة إلى خروج ما، لكنه «ليس الآن».
بصورة واضحة وافق الأمريكيون والأوروبيون على مثل هذا الخيار بصياغات مختلفة تباينت لغتها.
في لحظة بدا أن تسوية الأزمة ممكنة، وأمسكت روسيا بزمام المبادرة، وتحولت عاصمتها موسكو إلى مقر لاجتماعات متكررة ضمت أطرافاً دولية وإقليمية، وكل دول الإقليم الفاعلة تعاطت مع المبادرات الروسية، غير أن «عقدة الأسد» بما خلفها من مصالح واستراتيجيات عطلت التقدم إلى مثل هذه التسوية.
كل لاعب دولي، وهو يقترب من تفكيك العقدة وفق مصالحه الاستراتيجية، يحاول بأقصى ما يستطيع أن يكتسب مواقع أفضل عند الذهاب مجدداً إلى موائد التفاوض في جنيف. لا الروس متمسكون ببقاء «الأسد» تحت كل الظروف، ولا الغربيون ضد أن يكون طرفاً في أي مرحلة انتقالية.
صلب العقدة: بأي صلاحيات ولأي مدى؟
بالحساب الروسي، فإن دوره جوهري في أي سلطة انتقالية، ومصيره يحدده شعبه بالانتخابات الحرة المباشرة تحت إشراف أممي. وفي الحساب نفسه، الطرف الرئيسي الآخر في التفاوض من ائتلاف معارض يفتقد أي حضور حقيقي، فالأراضي السورية يكاد يتقاسمها النظام الحالي و«داعش» و«النصرة».
وبالحساب الغربي فلا بد من تقليص دور «الأسد» في المرحلة الانتقالية تمهيداً لخروجه الكامل من السلطة، غير أن مشكلة هذا الحساب أن بديله المقترح حالة «دعائية» أكثر من أن تكون «سياسية» و«عسكرية».
السؤال الروسي الأكثر إحراجاً: «أين هو الجيش الحر حتى نفاوضه»؟
في العمليات العسكرية الروسية استثمار لنقاط الضعف الجوهرية في الموقف الاستراتيجي للتحالف الأمريكي، ومحاولة خلق حقائق على الأرض بقوة السلاح يمكن بموجبها فرض شروطها على اللاعبين الآخرين المرتبكين بفداحة.
إنه لعب على الحافة في لحظة حرجة من تطور النظام العالمي. ورغم معاناتها الاقتصادية الصعبة فإنها قوة عسكرية هائلة.
الاقتصاد يضع حدوداً للقوة الحاضرة بأكثر من أي وقت مضى منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.
في ألعاب القوة من المستبعد- في أيّ مدى منظور- تدخل مماثل من «الناتو» ولا تنسيق عسكري مع موسكو من المعسكر الغربي إلا بقدر ما يمنع مخاوف الصدام العسكري المباشر. تدرك موسكو الحقائق وتعمل على أساسها. حتى ما يبدو جموحاً في القوة فيه إدراك للحقائق.
لم يكن اختراق الطائرات الروسية للأجواء التركية خطأ غير مقصود، هو تحرّش عسكري عمدي ورسالة سياسية مطلوبة لردع إسطنبول عن مناهضة الحضور الروسي بالقرب من حدودها. كما لم يكن الإعلان عن تحالف رباعي يضمها إلى طهران وبغداد ودمشق جملة عابرة في الموقف المشتعل.
التصعيد العسكري يرافقه كلام دبلوماسي عن الحل السياسي وفرصه والاستعداد لتعاون مشترك في الحرب على «داعش» ومبادرات محتملة في هذا الاتجاه خلال أكتوبر/تشرين الأول الحالي. أمام الزخم الروسي لا يوجد لدى الولايات المتحدة – حتى الآن- ما تقوله لحلفائها. الروس حذرون من التورط البري، والأمريكيون يراهنون على خطأ قاتل من مثل هذا النوع. ألعاب القوة ما زالت في أولها، والسيناريوهات مفتوحة على تصعيدات محتملة وتسويات ممكنة.
عبد الله السناوي
نقلا عن دار الخليج