في خطوة غير مسبوقة رفعت روسيا من دعمها لنظام بشار الأسد من المستوى السياسي والدبلوماسي إلى المستوى العسكري والأمني الواسع، وهو ما مثل نقلة نوعية لدورها في إدارة الصراع السوري؛ حيث أعلنت روسيا أن وجودها العسكري في سوريا جاء استجابة لطلب الرئيس بشار الأسد بهدف مواجهة خطر تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وليس تدخلا في الصراع المباشر بين النظام والمعارضة المعتدلة، وهو ما أثبتت عكسه تماما حيث قامت المقاتلات الروسية بقصف مناطق تمركز قوات تابعة للجيش السوري الحر مطلع أكتوبر الجاري وهى مناطق بعيدة عن الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم الدولة والتي يستهدفها التحالف الدولي من حين لآخر.
في هذا السياق أقدمت روسيا على تزويد النظام السوري بطائرات مقاتلة، ودبابات ” تي 90 “، ومدافع هاوتزر، ومعدات وأسلحة عسكرية نوعية، ومجموعة من الخبراء العسكريين، بالإضافة للتواجد العسكري الفعلي على الأرض بقوة عسكرية من جنود البحرية الروسية في مدينة اللاذقية معقل الطائفة العلوية التي تمثل الحاضنة الشعبية للنظام ومنطقة تمركز قواته العسكرية، ما يدعو إلى التساؤل حول أسباب ودوافع التغير في الموقف الروسي من الأزمة بهذه الكيفية، ودلالات ذلك التغير وانعكاساته على مسار الصراع السوري، وعلى موقف القوى الإقليمية والدولية المعنية بالأزمة.
وهناك من يرى أن هذه الخطوة هي محاولة من روسيا لتخفيف الضغوط التي تمارسها عليها الولايات المتحدة في مناطق الجوار الجغرافي الروسي المباشر، وذلك عبر ضغط روسي مقابل في مناطق تمثل أهمية استراتيجية للإدارة الأمريكية لاسيما في منطقة الشرق الأوسط، بما يمكنها من فتح حوار مباشر تجاه جميع القضايا عبر التفاوض والمقايضة، بحيث تضمن طبقا لذلك حماية مصالحها وتواجدها في منطقة شرق المتوسط والمشرق العربي، وحاليا تطبق روسيا هذا التصور في سوريا؛ حيث أطلقت موسكو دعوة للحوار مع واشنطن بشأن الصراع في سوريا في منتصف سبتمبر الماضي.
أولا- الأسباب والدوافع:
يدفع ما سبق إلى تحليل الأسباب والمبررات التي جعلت روسيا تجرى هذه النقلة النوعية في دورها بشأن الأزمة السورية من أجل التمركز سريعا في سوريا، وهنا يمكن رصد عدة نقاط:
الأولى، تشير إلى إدراك روسيا لحجم الخسائر التي تعرض لها النظام السوري منذ مطلع العام الجاري مقابل مكاسب تحرزها المعارضة التي باتت تسيطر على مناطق ومدن استراتيجية سواء في الشمال أو الجنوب، وبات النظام مسيطرا على مناطق محدودة في الوسط وهى المناطق الممتدة من الساحل إلى العاصمة دمشق مرورا بحمص وحماة، هذه المعطيات قد تشير إلى اقتراب نهاية نظام الأسد، ما يعنى أن روسيا باتت قريبة من فقدان ورقة الضغط السورية على المصالح الأمريكية والغربية في شرق المتوسط، هنا أدركت روسيا مخاطر اللحظة وأعلنت عن تواجدها في البحر المتوسط عبر مناورات وتدريبات عسكرية ستستغرق فترة طويلة كنوع من إثبات الحضور الدولي باعتبارها فاعل لا يمكن إغفاله، بل وبإمكانه صياغة حل سياسي للأزمة إذا ما ضمن اعترافا إقليميا ودوليا بمصالحه السورية. وقد استهدفت روسيا من تواجدها العسكري على الساحل السوري تعزيز فرص تفاوضها مع واشنطن ليس في الملف السوري فقط، ولكن أيضا في كافة الملفات الخلافية خاصة تلك التي في الجوار الروسي المباشر وتضغط فيها واشنطن بقوة كأزمة أوكرانيا مثلا.
الثانية، تتعلق بمخاوف روسيا من استبعادها عند إعادة رسم خريطة المصالح الاستراتيجية في منطقة المشرق العربي وبالتحديد في سوريا على المدى المنظور، لاسيما بعد الاتفاق الإيراني النووي، فمن وجهة النظر الروسية فإن حالة الصمت الإيرانية تجاه الملف السوري في الآونة الأخيرة ما هي إلا ترجمة واقعية لنتائج الاتفاق النووي، خاصة بعد أن أعلنت طهران عن قبولها الجلوس على طاولة الحوار مع “أي طرف” حول سوريا في إشارة ضمنية إلى الولايات المتحدة والسعودية، وهو ما اعتبرته روسيا مؤشرا على اتجاه طهران للتقارب مع الولايات المتحدة والغرب، وما قد يعنيه ذلك من “صفقات محتملة ” داخل سوريا قد تقصى المصالح الروسية؛ والتي من أبرزها تأهيل ميناء طرطوس ليكون قاعدة عسكرية روسية تنفيذا للاتفاق الموقع بين الدولتين منذ عام 2008، وصفقات الغاز والنفط المبرمة بين الحكومة السورية وشركات النفط الروسية، وكذلك صفقات السلاح، إضافة الى مساعدة النظام في تأسيس مطار عسكري بالقرب من مطار اللاذقية المدني، وبدء العمل في إقامة قاعدة عسكرية روسية في مطار حميميم على بعد 22 كيلومترا جنوب مدينة اللاذقية، بالإضافة إلى ذلك تخشى روسيا أن تكون حصيلة مكاسبها في الوضع الجديد لا تتناسب وجهودها طوال السنوات الماضية في دعم وتسليح النظام السوري، وحمايته من كافة أشكال الإدانة القانونية والسياسية في مجلس الأمن عبر استخدامها للفيتو تجاه أي قرار ضده، هذه المخاوف دفعت موسكو إلى التواجد الفعلي العسكري في مناطق نفوذها السورية لتعلن لكافة أطراف الأزمة بما فيهم الحليف الإيراني أنها فاعل رئيسي في عملية تقاسم المصالح هناك، وأنها فاعل رئيسي على طاولة مفاوضات الحل النهائي المحتمل للأزمة.
الثالثة، تتعلق برغبة روسيا في إعادة تأهيل نظام الأسد عسكريا واقتصاديا طالما قررت التمسك بورقة النظام وإعادة تفعيلها مرة أخرى؛ فعملية التأهيل تمكن النظام من إحكام السيطرة على ما تبقى له من أراضي، وهى ما أطلق عليها مصطلح “سوريا المفيدة” أي المناطق التي لا تزال خاضعة لسيطرة النظام وبها حاضنات شعبية موالية له، ولا يستطيع النظام الاستمرار في السيطرة على هذه المناطق بإمكانياته العسكرية والاقتصادية المتآكلة نتيجة لاستنزافها في مواجهة المعارضة المسلحة إلا عبر إعادة ضخ مساعدات تمكنه من البقاء؛ هنا تجدر الإشارة إلى أن مصطلح سوريا المفيدة الذى تكرره الأوساط السياسية في إيران وروسيا ربما يشير إلى “تقسيم” محتمل لسوريا كأحد الحلول للصراع الممتد منذ أربعة سنوات، بما يجعل مناطق سيطرة النظام أو ما يسمى بسوريا المفيدة دولة علوية برئاسة الأسد.
الرابعة، تتعلق بفشل روسيا في إقناع السعودية بالصيغة الروسية المتصورة للحل في سوريا، والتي حاولت تسويقها عبر تنظيم لقاء بين وزير الدفاع السعودي محمد بن سلمان والمسئول الأمني الأول في السلطة السورية على مملوك خلال شهر يوليو الماضي؛ ومضمونها يدور حول تأسيس حكومة انتقالية في سوريا يكون بشار الأسد جزءا منها لمواجهة مخاطر وتهديدات تنظيم الدولة الاسلامية، إلا أن السعودية طالبت باستبعاد الأسد من أي تسوية سياسية، بعدها قررت روسيا في مطلع سبتمبر الماضي التدخل العسكري المباشر لمنع سقوط وانهيار النظام بصورة مفاجئة، ووقفا لنزيف نفوذها السياسي في سوريا لصالح إيران التي تتمتع بقبول سياسي قوى في المناطق التي لاتزال خاضعة لسيطرة النظام؛ الأمر الذى يحقق لروسيا هدفين: الأول، سحب الكثير من أوراق الضغط السورية من أيدى إيران حيث كانت حتى قبل الاتفاق النووي هي الطرف الأول الذى يجب التفاوض معه بشأن النظام. والثاني، ممارسة ضغوط مباشرة على السعودية والولايات المتحدة من داخل الآراض السورية بعد فشلها في حلحلة الموقفين السعودي والأمريكي تجاه فكرة بقاء الأسد.
الخامسة، تشير إلى مساعي روسيا لإعادة تشكيل ميزان القوى السوري قبل تدشين أي حل سياسي، فحتى هذه اللحظات ورغم الإمدادات العسكرية الروسية الكبيرة فلم تتضح معالم وحدود الانخراط الروسي في سوريا بعد، وهل سيتوقف هذا الدعم عند حدود الإمداد بالمعدات والخبراء، أم سيتعدى هذه المرحلة إلى مرحلة الدخول على خط الصراع مباشرة بقوة عسكرية قتالية إلى جانب النظام، الأمر الذى سيجعل المنطقة بأكملها تشهد حالة تصعيد عسكري دولي غير مسبوق، مع استمرار غياب أو تغييب الحل السياسي إلى أن يتم استعادة النظام زمام المبادرة العسكرية ميدانيا من المعارضة، حتى تتمكن روسيا من فرض حل سياسي يضمن بقاء الأسد ويوفر في الوقت نفسه مشاركة المعارضة “المعتدلة” في حكومة وحدة وطنية، وهو ما ترفضه السعودية ودول الخليج وتركيا.
السادسة، تشير إلى تخوف روسيا من ارتدادات العناصر المتشددة المقاتلة في سوريا إلى الأراضي الروسية، والتي ينحدر العديد منها من جمهوريات آسيا الوسطى التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي سابقا، هنا تأتى أهمية القرب الجغرافي السوري من روسيا، ما يجعل الحسابات الروسية مختلفة إلى حد كبير عن الحسابات الأمريكية والغربية عند تقييم المخاطر الناتجة عن وجود التنظيمات المتشددة في الأراضي السورية وفى مقدمتها تنظيم داعش.
ثانيا- الموقف الأمريكي:
على الجهة المقابلة كان الموقف الأمريكي بانتقاد التدخل العسكري الروسي الصريح في سوريا أشبه بكونه ظاهرة صوتية فقط، ما اعتبره البعض موافقة ضمنية بشكل أو بآخر على الخطوة الروسية التي تروج لها موسكو على أنها في مواجهة تنظيم الدولة، وهو ما يعكس استمرار فشل السياسة الأمريكية في سوريا والتي تركز على مواجهة داعش فقط دون النظر إلى الأسباب الرئيسية التي أدت إلى ظهور هذا التنظيم وغيره من التنظيمات المتشددة، بل ومحاولة إقناع الحلفاء – الخليجيين والاتراك – بهذا الهدف، ما يعنى عدم استبعاد فكرة موافقة واشنطن على بقاء الأسد، أو على أقل تقدير إبقاء دورها في خانة “الحياد” مع الالتزام فقط بمحاربة داعش وتجاهل كافة معطيات الصراع السوري الأخرى، لاسيما وأن تعاطي الإدارة الأمريكية مع الخطوة الروسية لا تعبر عن حالة القلق التي تبدو في تصريحات مسئوليها، حيث قابلت واشنطن طلب موسكو التنسيق على الأرض السورية فيما بينهما بقدر من الاهتمام، على اعتبار أن التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة يقوم بمحاربة التنظيم نفسه داخل الأراضي السورية، ثم الصمت على الضربات الجوية الروسية التي استهدفت مناطق تخضع لسيطرة المعارضة المعتدلة وليس تنظيم الدولة، ما يدلل على استمرارية حالة الغموض التي تغلف السياسة الأمريكية تجاه الأزمة السورية منذ اندلاعها وحتى الآن، ويدلل أيضا على أن فكرة استبعاد الأسد كلية من المشهد السياسي السوري لم تعد ملحة على واشنطن كفكرة محاربة الإرهاب التي تتلاقى فيها مع موسكو وطهران.
ثالثا- دلالات الخطوة الروسية ونتائجها:
الانخراط الروسي في سوريا بالكيفية السابق ذكرها يعكس عدة دلالات ونتائج يمكن رصدها فيما يلى:
• الخطوة الروسية عكست “تحولات نوعية” في طبيعة تعاطي الفاعلين الدوليين المعنيين بالصراع السوري؛ الولايات المتحدة وروسيا، تتركز معظمها حول سبل ربط الحل السياسي للأزمة السورية بمكافحة الإرهاب، حتى وإن وصل الأمر إلى تشكيل تحالف دولي من الأضداد المتصارعة بشأن الأزمة بهدف مواجهة تنظيمي الدولة الإسلامية وجبهة النصرة أولا، ثم التفكير في مصير الأسد في مرحلة لاحقة.
• انتقال إدارة الصراع السوري من المستوى الإقليمي – بين ايران ودول الخليج بالإضافة إلى تركيا – إلى المستوى الدولي، وهو ما قد يؤثر على مصالح بعض القوى الإقليمية في هذا الصراع وبالتحديد تركيا التي طالما طالبت واشنطن بإقامة مناطق عازلة شمال سوريا كمنطقة آمنة تضمن بها استقرار حدودها الجنوبية، أما إيران فإن تحولاتها التدريجية تجاه إبداء حسن النوايا والاستعداد للتعاون مع الولايات المتحدة والغرب باتت هي الحاكمة لتصرفاتها بعد إبرام الاتفاق النووي وبعد تمرير الكونجرس الأمريكي له، ومن ثم فإن مشاركتها المحتملة مع القوى الدولية في مواجهة داعش أصبحت هي الهدف الرئيسي الذى من أجله بدأت “تروج” لبقاء نظام بشار الأسد بمؤسساته العسكرية والأمنية والاستخباراتية كضمانة لمواجهة الإرهاب على مجمل الأراضي السورية.
• البعض يرى أن التدخل الروسي لن يؤدى إلى “تغيير فارق” في المعادلات العسكرية والسياسية للصراع السوري أو موازين القوى السائدة حاليا، والسبب وفقا لهذ الرؤية أن التدخل الروسي سيظل هدفه محصورا في منع سقوط النظام وانهياره فقط، عبر الحفاظ على مناطق تمركزه الممتدة من مدن الساحل وحتى العاصمة دمشق، ولن يتجاوز هذا الهدف إلى هدف استعادة كافة المناطق التي خرجت من تحت سيطرته لصالح المعارضة المسلحة من ناحية، أو لصالح تنظيم الدولة الإسلامية من ناحية ثانية، ما يعنى صعوبة تصور قيام موسكو بعمل عسكري برى في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام لتكلفته السياسية والعسكرية الباهظة، ناهيك عن كونه سيؤدى إلى إطالة أمد الصراع وما يترتب عليه من مشكلات إنسانية صعبة.
• تستهدف روسيا بنقلتها النوعية تلك فرض صيغة جديدة للحل تتجاوز وربما تلغى مقررات جنيف -1، بتقديمها طرحا يقوم على تشكيل حكومة من المعارضة تحت رئاسة الأسد، الأمر الذى يزيد من هواجس دول الخليج وتركيا بشأن احتمالية قبول الولايات المتحدة الصيغة الروسية الجديدة في ظل غموض موقفها من النظام السوري، وفى ظل محاولة موسكو تسويق هذا النظام باعتباره شريكا ميدانيا محتملا في محاربة الإرهاب.
• أصبحت المعارضة السورية بهذا التطور في الموقف الروسي أمام متغيرات سياسية وعسكرية جديدة، ما يتطلب منها مواجهة التواجد العسكري الروسي والإيراني على حد سواء، كما أن هذا التطور سيؤدى إلى ارتباك القوى الداعمة لها تسليحا وتدريبا ما سيكون له تأثيرات كبيرة على حركة تلك القوى وحساباتها بشأن الأزمة السورية برمتها.
بهذا التطور النوعي تكون روسيا قد قلبت موازين الصراع السورية بوجودها العسكري المباشر لمساندة النظام باعتبار سوريا آخر معاقل النفوذ الروسي في الشرق الأوسط؛ وأن هذه الخطوة “قد” تغير من معادلات الصراع القائمة؛ وهو ما قد يخرج الأزمة السورية من مرحلة الجمود الاستراتيجي التي كانت عليها والتي فرضتها توازنات إقليمية ودولية محددة، أو قد يبقيها في دائرة الجمود لسنوات أخرى، خاصة إذا قوبل الموقف الروسي الجديد بخطوات إقليمية ودولية “مضادة” مستقبلا.
صافينار محمد أحمد
مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية