لا تزال مناطق شاسعة من مالي وخاصة أحراج منطقة ميناكا خارج سيطرة الدولة بينما تنتشر فيها الجماعات المسلحة والجهاديون من مختلف الانتماءات، وتكثر فيها العربات المصفحة والآليات العسكرية. وتقود هذه الجماعات حملة لسحب الأسلحة من المدينة، بينما تبدو السلطات الرسمية غائبة كليا عن المنطقة بعد أن دُحرت منها لعجزها عن السيطرة على تمدد الجماعات المسلحة في المساحة الجغرافية الشاسعة قليلة السكان.
ميناكا (مالي) – تعاني مالي منذ نحو تسع سنوات من انتشار الجماعات الجهادية والعنف المسلح في مناطق متفرقة من البلاد، ورغم أن التدخل العسكري الذي بدأ منذ سنوات بمبادرة من فرنسا أسهم بدرجة كبيرة في تراجع نفوذ الجماعات المسلحة وقوتها بالمنطقة، ما تزال مناطق بأكملها شرق البلاد خارجة عن سيطرة الدولة التي صار يعوضها المسلحون.
وعلى تل رملي يطل على ميناكا في شمال شرق مالي، يقترب أحد ضباط الأمم المتحدة من شاحنة صغيرة متوقفة تحت ظل شجرة، بينما جلس خمسة رجال على حصيرة يطهون الشاي وبجانبهم أسلحتهم.
ويبدأ الكابتن تشارلي، من الوحدة البريطانية في قوة الأمم المتحدة في مالي “مينوسما”، المحادثة. يطلب منهم الترخيص بحمل السلاح وإلى أي مجموعة مسلحة ينتمون لأنه يريد أن “يفهم من هم وما هي أنشطتهم”.
ففي هذه المنطقة الصحراوية بين الساحل والصحراء يبدو المسلحون متشابهين للغاية، سواء كانوا يتحركون في شاحنات صغيرة أو على دراجات نارية أو عربات مصفحة. وهذا القطاع هو الوحيد في منطقة الساحل الذي تعمل فيه كل أطراف النزاع تقريبا باستثناء ميليشيات الدفاع عن النفس في بوركينا فاسو ووسط مالي.
المدنيون يواجهون مصيرهم بمفردهم على الحدود بين مالي والنيجر الواقعة تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية
وفي هذه المنطقة هناك مجموعات جهادية تعهدت بالولاء للقاعدة أو لتنظيم الدولة الإسلامية، ومتمردون سابقون من الطوارق والعرب، وجماعات مسلحة موالية للحكومة في الغالب من الطوارق، والفرنسيون من عملية برخان، والأوروبيون من قوة تاكوبا، ونيجيريون وتوغوليون وبريطانيون من “مينوسما”، وجنود من الجيش الوطني المالي.
ولا توجد إحصاءات موثوقة متاحة عن القوى العاملة في كل كيان. لكن من أعلى التل الرملي، لا داعي للتجهم عند رؤية شاحنة بيك آب مسلحة أو عربة مصفحة.
وغالبا ما تتعرض “مينوسما” التي تضم 18300 عضو من بنيهم 13200 عسكري لهجمات على غرار القوات المالية والفرنسية. وقد تكبدت أكبر عدد من الضحايا بين كل بعثات الأمم المتحدة في العالم.
ويتحدث رئيس الكتيبة الإنجليزية المقدم ويل ميدينجز عن “أحجية”. فالرجال المسلحون موجودون في كل مكان، لذا لا يخلو الأمر من مخاطر. ففي أوائل نوفمبر فتح جنود النخبة الإستونيون من تاكوبا النار عن طريق الخطأ على قوات حفظ السلام البريطانية.
ويقول الرجال المسلحون من تحت الشجرة للكابتن تشارلي إنهم ينصبون نقطة تفتيش وأنهم جزء من مجموعة مسلحة تضمن أمن المدينة “لمنع الجهاديين من القدوم إليها”.
ويضمن البريطانيون التابعون للأمم المتحدة أيضا الأمن لكن لشيء آخر؛ ففي المدينة يعقد الاجتماع الأسبوعي الذي يجمع جميع الجهات الأمنية القانونية. وقد تركوا عرباتهم المدرعة وشاحناتهم وعلى متنها الرشاشات الثقيلة أمام مدخل المحافظة حيث كانوا يتناقشون.
ويشرح المحافظ محمد ميغا أن هذا الاجتماع هو المرة الوحيدة التي “يتبادل فيها الممثلون المعلومات”، ولكن خلافا لذلك تعمل كل واحدة من المجموعات في الميدان من دون مشاركة المعلومات أو القليل جدا منها، كما تقول العديد من الجهات الفاعلة.
ويوضح رئيس الفرع الإقليمي للأمم المتحدة أوسلر دي ألميدا أن بعض الممثلين يتبعون أكثر من جهة، فالحدود بين بعض الجماعات المسلحة القانونية والجهادية مليئة بالثغرات.
ويحاول الجميع فهم من يسيطر على أي قطاع في منطقة شاسعة يقل عدد سكانها عن 60 ألف نسمة، بما يعادل اثنين لكل كيلومتر مربع، ومن الذي بايع أي جماعة أو من يبايع الجهاديين.
وفي المدينة تقوم مجموعات مسلحة وجنود بدوريات مشتركة في إطار عملية “ميناكا بدون أسلحة”، ويؤكد المحافظ أن الأحراج تسيطر عليها المجموعات المسلحة والجهاديون ولاسيما تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
وبعد الهجوم الذي استهدف معسكريه في غابات المنطقة، تراجع الجيش المالي إلى ميناكا مطلع العام الماضي ولا يزال هناك.
ولم يتم نشر أي مسؤولين خارج ميناكا، ولم تطأ أقدام قوات الأمم المتحدة مناطق كثيرة من القطاع.
“في الأحراج لا يوجد سوى الجهاديين”، كما يقول عمر الذي يتحدر من قرية مجاورة لميناكا لكنه وجد ملاذا في هذه المدينة وتحدث شرط عدم كشف هويته.
وتدعم فرنسا عبر قوة برخان مالي التي تواجه منذ 2012 هجمات جهادية بدأت في الشمال وأغرقت البلاد في أزمة أمنيّة قبل أن تمتد إلى وسط البلاد، لكنها تبدو غير قادرة على منع النزاع من التمدد خاصة مع تركيز جهودها أكثر على تقليص وجودها العسكري في البلاد ضمن استراتيجيتها العسكرية الممتدة إلى غاية العام 2023.
وتُحاول العديد من القوى الدولية استغلال الفراغ الذي سيتركه الانسحاب الفرنسي من الساحل، بينما تريد باماكو إبرام اتفاق مع شركة فاغنر الروسية الخاصة.
في ميناكا يبدو المسلحون متشابهين سواء كانوا يتحركون في شاحنات صغيرة أو على دراجات نارية أو عربات مصفحة
لكن إلى غاية الآن يواجه المدنيون مصيرهم بمفردهم على الحدود بين مالي والنيجر الواقعة تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، فهم يدفعون الزكاة وإذا رفضوا أو قاوموا ذلك يتم تدمير قراهم. وقتل منهم المئات. ففي أوائل نوفمبر قتل تسعة وستون مدنيا على الجانب النيجيري من الحدود في بانيبانغو.
وفي مثل هذه المنطقة النائية والمهملة، تمر الحوادث الأمنية من دون أن يلاحظها أحد.
ويعترف أحد كبار ممثلي قوة الأمم المتحدة في مالي “مينوسما” طلب عدم كشف هويته بأن “هناك الكثير من الأشياء التي لا نراها”. وأضاف “طالما أن الفراغ موجود في الأحراج لن تكون هناك دولة”.
وتحاول الأمم المتحدة مساعدة الدولة في الحصول على موطئ قدم. وسمحت في الآونة الأخيرة للحاكم بزيارة قرية تبعد 28 كيلومترا عن ميناكا ولم تشهد مطلقا وجود سلطة قانونية منذ استقلال البلاد في عام 1960.
ولا أحد يعرف متى سيتمكن من العودة إلى هناك، وما إذا سيتمكن يومًا ما من الذهاب إلى العشرات من القرى الأخرى التي تقع تماما خارج أعين الدولة.
ويحذر أوسلر دي ألميدا من أنه “كلما طال الوقت الذي ستستغرقه الدولة لتأسيس نفسها زادت صعوبة حل المشاكل”.
وهناك مناطق شاسعة في مالي، الدولة مترامية الأطراف التي يبلغ عدد سكانها 19 مليون نسمة، خارج سيطرة الحكومة بسبب تمرد جهادي بدأ في الشمال عام 2012 قبل أن ينتشر إلى وسط البلاد ويمتد إلى بوركينا فاسو والنيجر المجاورتين.
العرب