تزداد حدة الرسائل الغربية إلى إيران مع استمرار المفاوضات في فيينا بشأن برنامجها النووي، بموازاة التقارير المستمرة التي تكشف عن استعدادات عسكرية وخطط إسرائيلية جاهزة بمعرفة الولايات المتحدة لضرب البرنامج النووي الإيراني. ومع أن احتمالات الحرب واللاحرب قائمة، إلا أنها إذا حصلت فلن تكون حربا تقليدية بالمفاهيم التاريخية لتحرك الجيوش.
تتمّ استعادة جمل سياسية بطابع كوميدي عند التحدث عن ضربة أميركية أو إسرائيلية محتملة لإيران. كان الراحل جون ماكين المرشح لانتخابات الرئاسة الأميركية، قد قال مازحا أثناء إعلان ترشحه عام 2007، إنه يريد “قصف إيران بالقنابل …”، مرددا كلماته بمحاكاة لحن أغنية أميركية بعنوان “بيتش بويز” لباربرا آن.
ريتشارد سبنسر: هل يمكن للأميركيين التورّط في حرب أخرى في الشرق الأوسط
وإذا كانت تلك المزحة تمتلك أيضا مواصفات سياسية يبحث عنها الباحثون عن المؤشرات الملفتة للبناء عليها، إلا أن جون بولتون، وكيل وزارة الخارجية السابق لشؤون الحدّ من التسلح في عهد جورج دبليو بوش، كان أكثر حماسة من كوميديا ماكين عندما دعا إلى شن عمل عسكري، في مقال يعاد التذكير به في كل القراءات الأميركية والإسرائيلية للعلاقة المرتقبة مع إيران.
فقد كتب بولتون عام 2015 مشيرا إلى قصف إيران، وهو أفضل ما يلزم لوقف القنبلة الإيرانية، وقال حينها “الوقت قصير للغاية، لكن لا يزال بإمكان الضربة أن تنجح”.
مع ذلك لا يمكن أن نصدق كل ما يقوله الأميركيون، خصوصا الصقور منهم على شاكلة جون بولتون، فهو عندما تقلد منصبه السياسي المرموق في عهد الرئيس دونالد ترامب لم يفعل شيئا، وحوّله ترامب آنذاك إلى موضع تهكّم في تغريدات متواصلة.
هناك كرة في الهواء في علاقة إيران بالمجتمع الدولي، من غير المعروف من لديه القدرة على الحفاظ عليها، فلا توجد مؤشرات واقعية سواء بإعادة الاتفاق النووي مع الغرب أو بكسره مرة ثانية. بينما لا تكشف إسرائيل كعادتها عما يمكن أن تترقب المنطقة منها في علاقتها مع إيران مع أنها تعتقد أن إيران تستخدم “الابتزاز النووي” كاستراتيجية، وبالتالي يجب على الولايات المتحدة الشروع في الوقف الفوري للمفاوضات.
ضربة عسكرية
يتحدث المسؤولون الإسرائيليون بشكل متزايد عن توجيه ضربة عسكرية لإيران، بالتعاون مع الولايات المتحدة أو دونها، في حالة فشل المفاوضات في فيينا بشأن برنامج إيران النووي. مع أن العالم العربي لم يشتر من قبل ما كانت تبيعه إسرائيل، منذ ثمانينات القرن الماضي عندما كانت أقرب إلى إيران ووقفت معها بشكل فعلي أثناء الحرب مع العراق، سواء بدورها كوسيط لنقل أسلحة أميركية للجيش الإيراني بما عرف بـ”إيران غيت” أو بقصف المفاعل النووي العراقي 1981.
ولدى بعض المراقبين المهتمين بقراءة مستقبل الإقليم مؤشرات كثيرة طالما جمعوها عن ضربة في القلب الإيراني. بناء على تأكيدات مسؤولين في الجيش الإسرائيلي، بأن العمل العسكري كان دائما خيارا.
راز زيمت: الضغط الأقصى على إيران لم يثمر عن أهدافه السياسية
فقد حصل الجيش الإسرائيلي في الرابع من نوفمبر الماضي على مخصصات الميزانية البالغة 1.5 مليار دولار لضربة محتملة على إيران، بما فيها الطائرات دون طيار لجمع المعلومات الاستخباراتية.
وهدد الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هيرتسوغ إذا لم تتخذ الأسرة الدولية “الخطوات اللازمة” لإحباط المشروع النووي الإيراني، فإن إسرائيل ستضطر للدفاع عن نفسها.
وقال “في حال لم يتم التوصل إلى مثل هذا الحل فإن إسرائيل لا تزال تحتفظ بكافة الخيارات، التي ستظل مطروحة على الطاولة”.
فيما نقلت صحيفة “واشنطن بوست” هذا الأسبوع عن مسؤول عسكري كبير تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته بسبب حساسية الأمر قوله “نحن، كجيش الدفاع الإسرائيلي، مستعدون للدفاع عن أنفسنا بأنفسنا”، في إشارة لا تنتظر سوى إبلاغ الجانب الأميركي عند اتخاذ قرار ضرب إيران.
وذلك ما أكده وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس الخميس الماضي، وهو يتطلع إلى تعميق الحوار مع الولايات المتحدة حول الاستعداد العسكري المشترك لمواجهة إيران ولوقف طموحاتها النووية، خلال لقائه بنظيره الأميركي لويد أوستن في البنتاغون، في وقت لم يخف وزير الدفاع الأميركي قلقه حيال أنشطة إيران النووية والافتقار إلى تواصل دبلوماسي بناء.
وقال أوستن إنه في حال أخفقت السياسة الحالية الخاصة إزاء إيران، فإن الرئيس جو بايدن قالها بوضوح “مستعدون للانتقال إلى خيارات أخرى”.
داليا داسا كاي: واشنطن لن تقلّص قواتها في المنطقة عند انهيار الاتفاق النووي
بينما نقلت تقارير لوكالات الأنباء عن مسؤول أميركي كبير تأكيده أن جدول محادثات أوستن مع غانتس تضمّن مناقشات حول التدريبات العسكرية المحتملة، التي من شأنها أن تهيئ لتدمير المنشآت النووية الإيرانية في حال فشلت المساعي الدبلوماسية.
وعرض غانتس على المسؤولين الأميركيين جدولا زمنيا (لم يذكر تفاصيله) لمهاجمة إيران.
كما أعلنت القوات الجوية الأميركية قبل أيام عن نجاح اختبار لقنبلة خارقة للتحصينات موجهة بالليزر، وهذا النوع من القنابل له أهمية قصوى، فهو مصمم لاختراق حواجز صلبة من النوع الذي بنته إيران حول مواقعها النووية، والعديد منها مدفون في أعماق الجبال.
ونقلت صحيفة جيروزليم بوست الإسرائيلية عن مصدر دبلوماسي إسرائيلي قوله إن “الأميركيين لم يعبروا عن معارضتهم للاستعدادات الإسرائيلية لهجوم ضد إيران عندما أبلغهم غانتس بذلك”.
فيما خلصت داليا داسا كاي، الباحثة في مركز بيركل للعلاقات الدولية في جامعة كاليفورنيا، إلى أنه إذا انهار الاتفاق النووي مع إيران، فسيكون من الصعب على الولايات المتحدة تقليص وجودها في الشرق الأوسط وتحويل تركيزها إلى منطقة أخرى. ومن المؤكد أن الإسرائيليين لن يغفلوا إيران، وسيعمَلون على ضمان استمرار التصعيد.
ويقول “دعك من التسريبات عن الاستعدادات العسكرية فهي مستمرة على قدم وساق إسرائيليا وأميركيا. لكننا يمكن أن نعزو الضربة المحتملة، إلى انتهاء الصبر الاستراتيجي لدى إدارة الرئيس جو بايدن حيال الغطرسة الإيرانية التي لا تقدر عواقبها”. ذلك ما عبر عنه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن المنضوي في فريق الحمائم عادة إلى التقليل من أهمية أي احتمال بحدوث خرق في محادثات فيينا بقوله “يجب أن أقول لكم، الخطوات الأخيرة، الخطابات الأخيرة، لا تعطينا الكثير من أسباب التفاؤل”.
ويقول راز زيمت خبير الشؤون الإيرانية بمعهد دراسات الأمن القومي (INSS) “من الواضح اليوم أن الضغط الأقصى على إيران لم يثمر عن أهدافه السياسية”.
ويرى زيمت الذي عمل أيضا في مركز التحالف للدراسات الإيرانية بجامعة تل أبيب، إن هذه السياسة ربما تكون قد سرعت بالفعل التقدم النووي الإيراني، وأن إيران لديها الآن القدرة على إنتاج ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع قنبلة نووية في غضون أسابيع.
وأكد بقوله “لا يهم مقدار الضغط الذي تمارسه عليهم، فإن الإيرانيين يرون في برنامجهم النووي ضمانا للنظام”.
لكن سبنسر لا يندفع في مؤشرات الحرب وكأنها ستحدث غدا، ويرى أن السؤال بالنسبة إلى الأميركيين يظل ما إذا كان التورط في حرب أخرى في الشرق الأوسط ممكنا في الواقع، عسكريا أو سياسيا. كما يوجد شك واسع النطاق في أن إسرائيل رغم كل التهديدات وإعلان الجاهزية، عما إذا كانت مستعدة أو مسلحة لحرب كهذه.
إيران لا تتوقف عن توعد الإسرائيليين بدفع “ثمن غال”، وذلك بعد نشر تقرير عن خطط أميركية إسرائيلية لإجراء تدريبات عسكرية محتملة استعدادا لضربات على مواقع نووية إيرانية في حال فشل الدبلوماسية
مع ذلك هناك المزيد من المؤشرات عن تلك الحرب المحتملة، أما نوعها فذلك ما سيتم الكشف عنه، وهي في كل الأحوال لن تكون حربا تقليدية، وليست امتدادا لطريقة حرب احتلال العراق. هناك ما يمكن أن نسميه “سهم في القلب” لا يكتفي بشل المنشآت الإيرانية والحياة العامة برمتها ويعطل مسيرتها. بل بتدمير البرنامج النووي الإيراني، ليعيد إلى الذاكرة قصف مفاعل تموز العراقي في الثمانينات، حينها لم تخف إيران سعادتها بالضربة الإسرائيلية للعراق.
سبق وأن نجحت مقدمات هذه الحرب في اغتيال العالم النووي الإيراني فخري زادة، وشل محطات الوقود الإيرانية، بينما يتفاجأ حماة النظام في طهران بالحرائق التي تندلع في المنشآت الإيرانية العسكرية، وكل هذه مؤشرات لعمليات ينظر فيها إلى نوع الحرب الإسرائيلية المتوقعة على إيران.
في كل الأحوال، إن حدثت الحرب، فإن إسرائيل لن تحرك جنديا واحدا من مواضعها الآمنة، كما لن يتم إعطاء الإيعازات لكتائب الدبابات للتحرك. ستندلع الحرب من المنصات الإسرائيلية، بينما ستكون القبة الحديدية الإسرائيلية جاهزة لصد الصواريخ الإيرانية والطائرات من دون طيار. هذا لا يعني أن إسرائيل مؤمنة تماما، كما لا يعني أن جاهزية إيرانية غير مستعدة لهذه الحرب.
فطهران لا تتوقف عن توعد الإسرائيليين بدفع “ثمن غال”، وذلك بعد نشر تقرير عن خطط أميركية إسرائيلية لإجراء تدريبات عسكرية محتملة استعدادا لضربات على مواقع نووية إيرانية في حال فشلت الدبلوماسية.
لكن عملية الرصد الأولية تكشف أن إدارة بايدن المندفعة بشأن التفاوض لإعادة الاتفاق النووي مع إيران، لم تتنصل مثل أي إدارة أميركية سابقة من الاحتمال النظري لمهاجمة إيران.
لنعود هنا إلى تصريحات روبرت مالي المبعوث الأميركي الخاص لشؤون إيران، بتأكيده أن الولايات المتحدة “لن تقف مكتوفة الأيدي” إذا تقدم البرنامج النووي الإيراني، بينما عبر مسؤول أميركي آخر عن ثقته بما سيحدث إذا فشلت المفاوضات مع إيران “عندما يقول الرئيس بايدن إن إيران لن تحصل أبدا على سلاح نووي، فهو يعني ذلك”.
بيد أن المشككين يذهبون إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ يقول أفنير كوهين، وهو مؤرخ إسرائيلي وخبير في سياسات الردع النووي في البلاد، إنه إذا كانت إيران مصممة على امتلاك القنبلة، فسوف يتطلب الأمر تغيير النظام في طهران لوقفها.
ونقلت صحيفة هاآرتس اليومية عن كوهين قوله “جاهل من يعتقد أن قوة خارجية، سواء كانت وكالة استخبارات (الموساد أو وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية) أو الجيش، يمكنها ردع بلد يبلغ عدد سكانه 85 مليون نسمة، ببنية تحتية نووية وصناعية من النوع الموجود الآن في إيران”.
وأضاف “صحيح أنه من خلال الخداع، من الممكن إحداث ضرر وتأخير ما لا مفر منه، وفي أفضل الأحوال كسب عام وربما أكثر على نحو ما، لكن علينا أن نفهم أنه لا توجد قوة خارجية يمكن أن تمنع إصرار إيران على صنع أسلحة نووية، إلا من خلال غزو عسكري شامل”.
العرب