خواطر في ذكرى انهيار الاتحاد السوفييتي

خواطر في ذكرى انهيار الاتحاد السوفييتي

في مثل هذا اليوم منذ ثلاثين عاما، وتحديدا مساء يوم 25 ديسمبر/ كانون الأول من عام 1991، غادر غورباتشوف مبنى الكرملين، بعد أن وجّه خطابا متلفزا إلى شعوب الاتحاد السوفييتي، أعلن فيه تسليم كل سلطاته الدستورية إلى الرئيس بوريس يلتسن. لتبدأ على الفور إجراءات إنزال العلم السوفييتي الأحمر من فوق المبنى التاريخي العتيق، ورفع علم روسيا ثلاثي الألوان مكانه. في صباح اليوم التالي، أعلن مجلس السوفييت الأعلى حلّ نفسه، واعترافه باستقلال الجمهوريات السوفييتية السابقة، مكرسا بذلك لحظة الانهيار الرسمي لتلك القوة العظمى التي حلت محلها الآن روسيا الاتحادية. وعلى الرغم من عظم ما جرى وخطورته، إلا أن تلك الأحداث بدت، في حينها، مجرّد تحصيل حاصل، خصوصا أن عملية تفكّك الاتحاد السوفييتي وانهياره كانت قد بدأت بالفعل قبل ذلك، لحظة سقوط جدار برلين وهدمه عام 1989، والتي شكّلت نقطة انطلاق أولى، ليس فقط نحو إعادة توحيد ألمانيا، وإنما أيضا نحو انهيار عقد حلف وارسو والكتلة الشرقية ككل، قبل أن ترتدّ حركة التغيير الجارية لتطاول الداخل السوفييتي نفسه، وتنتهي بإعلان استقلال الجمهوريات السوفييتية، الواحدة تلو الآخرى. لذا لم يكن غريبا أن يبدو الاتحاد السوفييتي خلال تلك الفترة التي سبقت سقوطه الفعلي عاجزا تماما عن ممارسة دوره على المسرح الدولي بوصفه قوة عظمى، وهو ما بدا واضحا تماما إبّان الأزمة التي اندلعت في 2 أغسطس/ آب 1990 عقب إقدم صدّام حسين على غزو الكويت واحتلالها.

المتأمل للمسار الذي سلكته تفاعلات النظام الدولي خلال الأعوام الثلاثين المنصرمة يمكنه أن يلاحظ أن الاعتبارات الأيديولوجية لم تلعب سوى دور هامشي

كان الجدل قد احتدم إبّان الفترة الانتقالية التي مهّدت لتفكّك الاتحاد السوفييتي وانهياره، حول ما يمكن أن يكون عليه شكل النظام الدولي في المرحلة اللاحقة، حيث سادت آنذاك رؤيتان: الأولى: ترجّح ولادة نظام دولي جديد تديره الأمم المتحدة وفقا لقواعد القانون الدولي، ويجري فيه تفعيل آليات الأمن الجماعي التي كانت الحرب الباردة قد أدّت إلى تجميدها. ولأن مجلس الأمن لعب إبّان إدارته أزمة الكويت دورا شديد الفاعلية ومختلفا نوعيا عن كل الأدوار التي مارسها من قبل، فقد راح بعضهم يروج آنذاك أن المجلس مرشّح للعب دور القاطرة في النظام الدولي الجديد، ومن ثم فإن أي انتهاكات يترتب عليها إخلال بالسلم والأمن الدوليين ستواجه بالجدّية والصرامة اللتين واجه بها مجلس الأمن أزمة احتلال الكويت… الثانية: ترجّح ولادة نظام دولي جديد تقوده الولايات المتحدة منفردة، وتديره وفقا لرؤيتها الأيديولوجية الخاصة. ولأن بعضهم رأى في انهيار الاتحاد السوفييتي هزيمة في الوقت نفسه لكل الأفكار والنظم الاشتراكية والشمولية، وانتصارا للأفكار والنظم الرأسمالية والليبرالية، فقد شاع تصوّر أن الولايات المتحدة هي المرشّحة تلقائيا لقيادة النظام الدولي الجديد، باعتبارها القطب المنتصر في الحرب الباردة، وأنه نظام سيُدار اقتصاديا وفق قواعد السوق ومنطقه، وسياسيا وفقا لمنطق المذهب الليبرالي وقواعده. وقد روّج هذه الرؤية منظّرون كثيرون، في مقدمتهم فوكوياما الذي اشتهر بأطروحته “نهاية التاريخ”.
غير أن المتأمل للمسار الذي سلكته تفاعلات النظام الدولي خلال الأعوام الثلاثين المنصرمة يمكنه أن يلاحظ أن الاعتبارات الأيديولوجية لم تلعب سوى دور هامشي، فالولايات المتحدة، والتي بدت شديدة الحرص على الانفراد بقيادة النظام الدولي في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لم يكن لها رؤية أيديولوجية واضحة لكيفية إدارة هذا النظام، وبالتالي لم تكن معنيةً حقيقة لا بانتصار النظام الرأسمالي ولا بانتصار المذهب الليبرالي، إلا في الحدود التي تحقّق لها مصالحها بوصفها دولة، ومصالح حلفائها، خصوصا إسرائيل. ولا أظنني أخالف الحقيقة إذا كتبت أن الولايات المتحدة حدّدت لنفسها في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي هدفين رئيسيين، سعت إلى تحقيقهما بكل الوسائل والسبل المتاحة: محاصرة روسيا الاتحادية، والقيام بكل ما في وسعها لضمان عدم استعادتها النفوذ الذي كانت تتمتع به إبّان الحقبة السوفييتية. حماية أمن إسرائيل والمحافظة على تفوقها العسكري على نحو يسمح للمشروع الصهيوني بالتوسع والتمدّد إلى أقصى حدود ما تسمح له به قدراتها العسكرية.

المبالغة الأميركية في حماية أمن إسرائيل كانت أحد العوامل التي ساعدت على استدراج الولايات المتحدة لشن الحرب على العراق عام 2003

لتحقيق هدفها الأول، استبعدت الولايات المتحدة أي تحرّك نحو تفعيل آليات أمنٍ جماعي لا بد وأن يدار من خلال لجنة أركان الحرب المنصوص عليها في المادة 47 من ميثاق الأمم المتحدّة، لأن التحرّك على هذا المسار يتيح للدول الخمس دائمة العضوية، بما فيها روسيا الاتحادية والصين، أن يلعبا دورا رئيسيا في قيادة النظام العالمي الجديد، وهو ما لا تريده الولايات المتحدة. وهو ما بدا واضحا منذ اندلاع أزمة الكويت. كانت هذه الأزمة قد أتاحت فرصةً حقيقية لتفعيل آليات الأمن الجماعي، لكن الولايات المتحدة بادرت بإجهاضها على الفور، وحرصت على إدارة الأزمة بطريقةٍ تمكّنها من الاكتفاء بالحصول على تفويض من مجلس الأمن، يتيح لها إدارة العمليات العسكرية ضد العراق بشكل منفرد، وليس من خلال لجنة أركان الحرب، كما يقضي نظام الأمن الجماعي، ويمكنها، في الوقت نفسه، من التحكّم في مصير العراق مستقبلا. وبعد “تحرير الكويت”، وعلى الرغم من تصاعد المطالب الرامية إلى إصلاح الأمم المتحدة بما يسمح بتفعيل نظام الأمن الجماعي، تمكّنت الولايات المتحدة من إحباط هذه المطالب. وبدلا من حل حلف الناتو، أسوة بحلف وارسو، راحت تعمل على تقويته وتدعيمه، وتسعى إلى استخدامه ذراعا عسكرية بديلة لنظام الأمن الجماعي، وأداة للتدخل في الأزمات الدولية، وهو ما حدث في كوسوفو عام 1999، ثم في أزمات دولية أخرى عديدة، كالتدخل في أفغانستان عام 2001، وفي ليبيا عام 2011 .. إلخ. على صعيد آخر، راحت الولايات المتحدة تشجع المحاولات الرامية لتوسيع العضوية في حلف شمال الأطلسي (الناتو) واستخدامه أداة لمحاصرة روسيا وإجبارها على تبني سياسة أمنية دفاعية, من خلال نشر منظومات صواريخ متقدمة في مجالها الحيوي. ويلاحظ هنا أن جميع الدول التي كانت في حلف وارسو أصبحت في “الناتو”.
ولتحقيق هدفها الثاني، لم تكتف الإدارات الأميركية المتعاقبة، الجمهورية منها والديمقراطية على السواء، بمد إسرائيل بما تحتاجه وما لا تحتاجه من أحدث أنواع الأسلحة التي تمكّنها من تحقيق التفوق النوعي على جيوش الدول العربية مجتمعة، ولكنها أيضا راحت تقدّم الحماية والغطاء السياسي اللذين يمكّنان إسرائيل من التمادي في سياساتها الاستيطانية والتوسعية والعنصرية. ويلاحظ هنا أن الولايات المتحدة، والتي نادرا ما استخدمت “الفيتو” في مجلس الأمن حتى سبعينيات القرن، أصبحت ليس فقط الدولة الأكثر استخداما له في مرحلة ما بعد تفكّك الاتحاد السوفييتي وانهياره، وإنما انحصر استخدامها له في هدف واحد، حماية إسرائيل ومنع مجلس الأمن من إدانة سياساتها التوسعية والعنصرية التي تشكل انتهاكا لروح ميثاق الأمم المتحدة ونصّه. الأخطر أن المبالغة الأميركية في حماية أمن إسرائيل كانت أحد العوامل التي ساعدت على استدراج الولايات المتحدة لشن الحرب على العراق عام 2003، وسوف يكون بالتأكيد أحد أهم العوامل التي قد تؤدّي إلى استدراجها لشن الحرب على إيران في المستقبل القريب أو البعيد.

النظام الدولي يواجه مأزقا لن يستطيع الخروج إلا بتوافق الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن على إصلاح الأمم المتحدة وإعادة إحياء نظام الأمن الجماعي

ولكن هل حققت سياسات الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكّكه أهدافها في حصار روسيا والتمكين لإسرائيل في المنطقة؟ لا أعتقد ذلك، فكل الدلائل تفيد بأن هذه السياسات فشلت فشلا ذريعا في تحقيق أهدافها. ويكفي أن تقارن بين مكانة روسيا الدولية في مرحلة ما بعد تفكك الاتحاد السوفييتي مباشرة ومكانتها الآن، وأن تنظر إلى المأزق الذي تواجهه إسرائيل حاليا ليس فقط بسبب التحدّي الذي يمثله محور المقاومة في المنطقة، وإنما أيضا، وعلى وجه الخصوص، بسبب انكشاف نظامها العنصري القائم على الأبارتهايد، والذي أصبح موضع إدانة من أوساط عديدة في العالم، بما في ذلك داخل الولايات المتحدة نفسها.
بقي أن يشار إلى أن الولايات المتحدة، والتي لم يكن بمقدور أحد أن يشكّك في قدرتها على قيادة النظام الدولي، بحكم فجوة القوة التي كانت تفصل بينها وبين بقية الدول المرشّحة للمنافسة على قيادة هذا النظام لحظة سقوط الاتحاد السوفييتي وانهياره، أصبحت الآن غير مؤهلة لقيادته، وربما غير قادرة عليها. ويكفي أن نتذكّر أنها لجأت، أخيرا، إلى فرض إجراءات حمائية في مواجهة البضائع الصينية، لا لشيء إلا لأنها لم تعد قادرةً على المنافسة الحرة معها، كما يكفي أن نتذكّر أن الديمقراطية الأميركية نفسها بدأت تواجه مأزقا كبيرا، خصوصا بعد اقتحام الكونغرس في 6 يناير/ كانون الثاني من هذا العام، بل وأصبح النظام السياسي الأميركي نفسه هشّا ومعرّضا بدوره لاضطرابات هائلة، وربما لانقلابات داخلية. حينئذ، سوف ندرك بوضوح أن النظام الدولي مقبل على تغييرات هائلة، وأنه يواجه مأزقا لن يستطيع الخروج إلا بتوافق الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن على إصلاح الأمم المتحدة وإعادة إحياء نظام الأمن الجماعي.

حسن نافعة

العربي الجديد