في آذار (مارس) 2014، ضمن مقالة نشرتها صحيفة «واشنطن بوست» وتُستعاد اليوم على نطاق واسع، اقترح وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر النقاط الأربع التالية على سبيل معالجة حال أوكرانيا، التي تأزمت يومذاك رغم أنها لم تبلغ شأو تدخل عسكري روسي، وتداعيات أمريكية وأوروبية وأطلسية ودولية تعيد ترجيع أصداء الحرب الباردة:
1 ــ يتوجب ان تمتلك أوكرانيا الحقّ في الاختيار الحرّ لارتباطاتها الاقتصادية والسياسية، بما في ذلك التوجّه نحو أوروبا.
2 ــ لا يتوجب على أوكرانيا الانضمام إلى الحلف الأطلسي.
3 ــ يتوجب أن تكون أوكرانيا حرّة في اعتماد أية حكومة متطابقة مع الإرادة الحرّة للشعب، وعلى الحكماء من ساسة أوكرانيا أن يجنحوا إلى سياسة مصالحة مع مختلف الأجزاء في بلدهم. وعلى صعيد دولي يتوجب أن يقتفوا مساراً يمكن مقارنته مع فنلندا، فذاك البلد لا يترك مجالاً للشكّ في استقلاليته القوية لكنه يتعاون مع الغرب في معظم الميادين ويتفادى بعناية أي عداء تأسيسي مع روسيا.
4 ــ ليس متطابقاً مع النظام الدولي الراهن أن تلجأ روسيا إلى ضمّ القرم، لكن من الممكن إقامة علاقات القرم مع أوكرانيا على أساس أقلّ شحناً، ولهذا يتوجب على روسيا الاعتراف بسيادة أوكرانيا على القرم، وأن تعزز أوكرانيا استقلال القرم الذاتي عبر انتخابات تُجرى تحت إشراف مراقبين دوليين. وعلى السيرورة أن تزيل أي اعتبارات غامضة تتعلق بأسطول البحر الأسود في سيفاستوبول.
ورغم أنّ «حكيم» الدبلوماسية الأمريكية المزمن، بمعنى الإدمان الواسع على استشارة ما يجود به من «حكمة» بين أزمة دولية وأخرى، لم يصنّف مقترحاته تلك تحت بند «الوصفة»، بقدر ما اعتبرها «مبادئ» ليس أكثر؛ فإنّ الاجتياح العسكري الروسي الراهن في أوكرانيا أغوى الكثيرين، من المشتغلين بالسياسة، أسوة بالمعلّقين عليها والمحللين لظواهرها، بإحيائها مجدداً على سبيل اعتبارها… وصفة، بالضبط، وسحرية أيضاً! والقليل من هؤلاء يذهب بالإغواء خطوة تالية أبعد، واحدة وحيدة ربما، تتساءل ببساطة: إذا كانت لم تنجح يومذاك في علاج تأزّم لم تصعّده موسكو إلى سوية المواجهة العسكرية والغزو، فلماذا يُنتظر منها أن تنجح اليوم في سياق الاجتياح والحرب والضمّ والإلحاق والمجازر والخراب والتشريد؟ وأيضاً، إذا لم يكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أصغى إلى ذلك الجزء من الوصفة التي يوصي بعدم ضمّ القرم، فلماذا سوف يصغي اليوم بعد أن أضاف إلى شبه الجزيرة أجزاء كاملة انفصالية من أوكرانيا في دونتسك ولوغانسك وسواهما؟
هذا على الصفّ الذي يواصل الإيمان الشديد بفضائل الحكمة الكيسنجرية، ويرفع عقيرة بأعلى الصخب تقول إنّ وصفة الرجل، أحببتموه أم كرهتموه، هي الأصحّ والأفضل اقتراباً من معنى الدبلوماسية الحديثة، والأقرب إلى التطبيق من النواحي العملية. أمّا على صفوف أخرى، لأنها في الواقع ليست صفاً واحداً قابلاً للتوحيد أو الاختزال، فإنّ كيسنجر قد يكون أحد أكثر قرّاء التاريخ الدبلوماسي حصافة بمصطلح الواقعية السياسية الذرائعية على وجه التحديد، لكنه قد يكون الأبرع على الإطلاق في تسخير ما يتعلّم من التاريخ ويعلّم من دروسه بهدف اعتناق التأويلات الأسوأ لقضايا الشعوب، وتقديم الخدمات الأنفع للسياسات الأمريكية الإمبريالية وخاصة منها الغزو والإخضاع والهيمنة.
لندعْ جانباً، ولأغراض الاختصار فقط، سجلّ كيسنجر الملطّخ بالدماء والانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية، فنقتصر على «الخدمات» التي قدّمها في الشرق الأوسط:
ــ نصح دولة الاحتلال الإسرائيلي بسحق انتفاضة 1987 «على نحو وحشيّ وشامل وخاطف»، وهذه كلمات كيسنجر الحرفية التي سرّبها عامداً جوليوس بيرمان الرئيس الأسبق للمنظمات اليهودية الأمريكية؛
ــ الموقف «التشريحي» المأثور من الاحتلال العراقي للكويت، ودعوة الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب إلى تنفيذ ضربات «جراحية» تصيب العمق الحضاري والاجتماعي والاقتصادي للعراق (البلد والشعب، قبل النظام وآلته العسكرية والسياسية)؛
ــ الدعوة العلنية، المأثورة تماماً بدورها، إلى «نزع أسنان العراق» دون تدمير قدرته على مقاومة أي غزو خارجي من جانب جيرانه المتلهفين على ذلك، في مقالة مدوّية بعنوان «جدول أعمال ما بعد الحرب»، نشرها بتاريخ 28/1/1991؛
ــ توبيخ فريق رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين، لأنّ ما تعاقدوا عليه مع ياسر عرفات في أوسلو ثمّ في البيت الأبيض ليس سوى «إوالية» Mechanism متحرّكة ستفضي عاجلاً أم آجلاً إلى دولة فلسطينية (هي التي رفضها كيسنجر كيفما جاءت، وأينما قامت، واستوى لديه أن تتخلق من محض «إوالية» أو تنقلب الى أقلّ من بلدية)؛
ــ سخريته من بعض «الفتية الهواة» في البيت الأبيض ممّن يخلطون «البزنس» بالأخلاق، والتجارة بحقوق الإنسان (مثال الصين)، ولا يميّزون في حروب التبادل بين العصبوية الأورو ــ أمريكية وشرعة التقاسم الكوني لسوق شاسعة بقدر ماهي ضيقة (مواثيق الـ «غات» وأخواتها).
ليس صاحب هذا السجلّ هو الساحر الذي تصحّ استعادة وصفاته العتيقة، التي ثبت فشلها أو اتضحت عواقبها المعاكسة لمطامح أهالي القضايا أنفسهم، من فلسطين إلى العراق ومن تشيلي إلى أوكرانيا؛ بل هو «حكيم» السحر الذي ينقلب وبالاً على صانعه، خاصة حين يتعمّد الاتكاء على التاريخ بهدف أوّل وأعلى هو إساءة تفسير التاريخ، أو ليّ عنق المنطق التاريخي نحو التلفيقات تارة والأباطيل تارة أخرى. أو، في وجهة أخرى من المعادلة، ليس خطأ أن يلجأ المناهضون لـ»حكمة» كيسنجر إلى اختيار وصفة أخرى شهيرة، صاغها في مجلده الضخم «الدبلوماسية»، 1994؛ وسارت بعض أبرز بنودها هكذا:
1 ــ العالم الراهن يقتضي، أكثر من أي وقت مضى، امتلاك المعنى الأشدّ وضوحاً وبروداً ونفياً للعواطف بصدد مضمون وجدوى مفهوم المصلحة الوطنية (والكونية، لأنّ المصلحة الوطنية الأمريكية هي مصلحة البشرية، شاءت تلك البشرية أم أبت).
2 ــ ينبغي وضع أكبر قدر ممكن من علامات الاستفهام والريبة على أي ترتيبات متصلة بالأمن الجماعي، سيما تلك التي ترتكز جوهرياً على ذلك «الإجماع الصوفي الغامض» حول أخلاقية انتفاء القوّة (وبالتالي اللجوء إليها) في مختلف ميادين العلاقات الدولية.
3 ــ لا مناص من ترجيح (ثم صياغة وتطوير) التحالفات الصريحة القائمة على المصلحة المشتركة، وغضّ النظر عن التحالفات المقابلة، تلك التي تحوّل مقولات «السلام» و»الحرّية» إلى شعارات وشعائر زلقة ومطاطة وجوفاء. أعراف «القرية الإنسانية الكونية» ليست قابلة للصرف في سوق مزدحمة شرسة لا ترحم؛ وبالتالي، ينصح كيسنجر: أعيدوها إلى أفلاطون والأفلاطونيين!
4 ــ تأسيساً على ذلك، لا بدّ من إقرار الحقيقة القاسية التالية، واعتمادها: التنازع، وليس السلام، هو الأقنوم الطبيعي الذي ينظم العلاقات بين الشعوب والقوى والأفراد. «لا يوجد أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون، بل توجد مصالح دائمة فقط». كان اللورد بالمرستون (وزير خارجية بريطانيا خلال ثلاثينيات القرن الماضي) على حقّ حين اجترح هذه العبارة الذهبية. إنه على حقّ اليوم أيضاً، أكثر من أي وقت مضى.
وليس عجيباً أن يجد امرؤ أنّ بعض نصائح كيسنجر تتردد في سلوك بوتين أو رؤساء أمريكيين أمثال باراك أوباما ودونالد ترامب وجو بايدن، سواء بسواء. وهذه السطور تقصدت اختصار «الحكمة» الكيسنجرية، ونقائضها، إلى بنود ونقاط، لأنّ التبويب هنا ينطوي في ذاته على حُسْن الإبلاغ ويُسْر التبيان؛ عدا عن كونها أقصر طريقاً إلى الحكمة الماركسية الشهيرة، عن تاريخ يعيد نفسه في صيغة مهزلة، بعد مأساة.
القدس العربي