وارسو – مع استمرار المعارك في أوكرانيا وسط سعي روسيا لبسط سيطرتها على مدينة ماريوبول الساحلية لتكون أول مدينة كبرى تسقط بيدها منذ بدء الحرب في الرابع والعشرين من فبراير الماضي تتصاعد التساؤلات حول الأطراف المستفيدة من الغزو الروسي حيث تعد بولندا أحد أبرز هؤلاء.
نجحت وارسو بعد اشتعال المعارك في أوكرانيا في تحقيق العديد من الأهداف أهمها ترميم علاقاتها ببروكسل وواشنطن، وأيضا إضفاء مصداقية على تحذيرات أطلقتها مراراً حول طموحات موسكو وأجنداتها في المنطقة.
وصاغت وارسو خطتها الخاصة بها لمواجهة الغزو الروسي لأوكرانيا حيث اعتبر رئيس الوزراء ماتيوش مازوفيتسكي في مقال رأي نشره موقع “بوليتيكو” بنسخته الأوروبية في الخامس والعشرين من مارس 2022، إذ اعتبر أن إنقاذ أوكرانيا يحتاج إلى المزيد من التنسيق، والتعاون بين العواصم الأوروبية والتحرك من خلال عدد من المحاور.
محمود قاسم: الموقع الجغرافي لبولندا قد عزز مكانتها كبوابة للحضور الغربي في الحرب الحالية
وتشترك بولندا في هذه الخطة مع سلوفينيا وجمهورية التشيك، وتستهدف محاصرة روسيا وفرض حالة من العزلة عليها. وتتم هذه الخطة من خلال عشر خطوات، من بينها التأكيد على ضرورة منع الاقتصاد الروسي من التكيف مع العقوبات الغربية، وذلك من خلال فصل جميع البنوك الروسية عن نظام سويفت المالي العالمي.
وفيما طاولت تداعيات الحرب في أوكرانيا الأطراف المنخرطة فيها مباشرة وحتى بقية دول العالم التي تضررت نتيجة اضطراب الإمدادات سواء في مجالي الطاقة أو الغذاء، نجحت بولندا في تحصيل العديد من المكاسب.
وقال الباحث محمود قاسم في ورقة بحثية لمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة إن “بولندا قد تمكنت من تحقيق عدد من المكاسب التكتيكية والاستراتيجية منذ اندلاع الحرب في الرابع والعشرين من فبراير الماضي، وقد ارتبط بعضها بالداخل، فيما انعكس الآخر على دور وارسو كقوة يمكن أن تُعيد الاتزان إلى دول حلف الناتو أو على أقل تقدير تُسهم في تشكيل حائط صدّ ونقطة ارتكاز لمواجهة التهديدات الروسية في حال توسّعها أو تمدّدها خارج حدود أوكرانيا”.
واعتبر قاسم أن “بولندا حققت مكسباً استراتيجياً على أثر اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، فمنذ عضوية الأولى في حلف الناتو عام 1999، روجت لخطورة المشروع الروسي التوسعي، وما يمثله من تهديد على دول أوروبا الشرقية؛ بيد أن الكتلة الغربية كانت تنظر إلى هذا الطرح البولندي على أنه يحمل قدراً من المبالغة، خاصة أن وارسو لم تكن من أنصار مبدأ احتواء موسكو عبر تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية، حيث كانت تنظر إلى أدوات القوة الصلبة باعتبارها الأنسب لردع روسيا”.
وأوضح أن “الموقع الجغرافي لبولندا قد عزز مكانتها كبوابة للحضور الغربي في الحرب الحالية؛ وذلك بسبب حدودها المشتركة مع أوكرانيا والتي تصل إلى نحو 530 كيلومتراً، بحيث أصبحت في موقع المدافع عن دول أوروبا الشرقية، علاوة على تحولها إلى دولة عبور للمعدات والأسلحة الغربية إلى أوكرانيا. وهذا ما اعتبرته بعض التقديرات أكبر عملية لنقل الأسلحة الدولية منذ الحرب العالمية الثانية”.
وأضاف قاسم “أصبحت بولندا موطئ قدم لدول الناتو؛ وذلك من خلال نمطين: الأول عبر تعزيز الحضور العسكري، والذي وصل إلى نحو 9 آلاف جندي، بعدما نشرت الولايات المتحدة الأميركية نحو 5 آلاف جندي قبل بدء الحرب الأوكرانية. في حين انسحب النمط الثاني لنشر عدد من المعدات العسكرية والمنظومات الدفاعية في بولندا. ومن هنا عززت دورها في صياغة معادلة الأمن الغربي، ما جعلها بمنزلة ‘العمود الفقري’ لمجمل التحركات الغربية في الحرب الدائرة”.
الحرب في أوكرانيا قادت إلى تبدل موقف واشنطن من وارسو وهو ما تعكسه زيارة الرئيس الأميركي في الخامس والعشرين من مارس الماضي إلى بولندا
ويأتي ذلك في وقت تعيد فيه روسيا تجميع صفوفها استعدادا لمعركة قد تكون حاسمة للسيطرة على شرق أوكرانيا، وهو ما دفع الغرب إلى زيادة إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا في مسعى لإعاقة تقدم الروس.
وسيؤدي ذلك بحسب قاسم إلى ترميم العلاقات بين وارسو والقوى الغربية في مقدمتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وتسببت الحرب الروسية – الأوكرانية في تغيّر موقف الرئيس الأميركي جو بايدن، من وارسو، حيث أنه خلال حملته الانتخابية، كان ينظر إليها كنموذج للأنظمة الشمولية الصاعدة في العالم، كما تأزم الموقف بين البلدين في نهاية العام الماضي عندما أقر البرلمان البولندي مشروع قانون موجه لشبكة تلفزيونية مملوكة للولايات المتحدة.
لكن الحرب في أوكرانيا قادت إلى تبدل موقف واشنطن من وارسو وهو ما تعكسه زيارة الرئيس الأميركي في الخامس والعشرين من مارس الماضي إلى بولندا.
لكن مكاسب وارسو لا تتوقف عند هذا الحد حيث عانت الحكومة البولندية خلال الفترة السابقة للغزو الروسي تحديات أدّت إلى تراجع مستوى التأييد والدعم الداخلي لهذه الحكومة.
ومن بين تلك التحديات، ما ارتبط بجائحة كورونا، والخلافات مع الاتحاد الأوروبي وما نجم عنها من فرض مزيد من القيود التي حجّمت وقلّصت مساحة الحركة لبولندا، علاوة على التحديات الاقتصادية ومنها ارتفاع الأسعار وتراجع مستويات المعيشة، وغيرها من المشكلات التي تراجعت مؤخراً أمام المخاوف التي أفضت إليها الحرب، والتي دفعت الرأي العام بما في ذلك المعارضة البولندية إلى توحيد الجبهة الداخلية بهدف مواجهة التهديدات الروسية إذ أن اعتبارات الأمن القومي، وفقاً لهذا المنطق، تتجاوز الانقسامات والأزمات الداخلية بحسب قاسم.
العرب