ركز الغرب نظره طيلة عشرين عاما على عدو خطأ لم يكن يشكل أي تهديد وجودي يمكن مقارنته بشن الحرب على أوكرانيا.
* * *
في منتصف شهر شباط (فبراير) (2022)، أرسلت قناة الجزيرة الإخبارية الناطقة بالعربية بشكل مفاجئ مراسليها المختصين بتغطية الحروب -الذين عرفتهم كمراسلين من بغداد وغزة وبيروت وكابول- إلى لفيف وكييف وأوديسا، وهي مدن أوروبية كانت مفعمة بالحياة والمرح وكنت قد عرفتها وأحببتها في رحلات كثيرة. ولم يكن من الواضح بعد إذا كان بوتين سيهاجم أوكرانيا. لكنني عندما شاهدت مراسلي قناة الجزيرة في أوكرانيا، لم يعد بإمكاني تجاهل إدراكي بأن السلام في أوروبا بدأ ينتهي الآن وهنا. وأصبحت تداهمنا فوضى مستعرة مثلما حدث في العالم الإسلامي منذ العام 2001 -مثل حيوان مفترس يتشمم فريسته السمينة، وهي هذه المرة مجتمعات الرفاهية في أوروبا الوسطى وساحتها الخلفية المهملة منذ فترة طويلة، أي أوكرانيا.
مطاردة العدو الخطأ
ركز السياسيون والخبراء لدينا نظرهم طيلة عشرين عاما على العدو الخطأ، على الإسلام السياسي، الذي كما يبدو أصبح غير مؤذٍ عند النظر إليه من منظور اليوم! ولم يكن يشكل في أي وقت تهديدا وجوديا تمكن مقارنته بالحرب الدائرة حاليا. كان الإسلام المثقل بالأزمات خصما يشعر بالامتنان. وكان الغرب يخوض حملة صليبية إيديولوجية من أجل “نزع تطرف” المسلمين وبهدف هدايتهم إلى “القيم الغربية”. ولكن معظم العرب والمسلمين يشاركون الغرب هذه القيم منذ فترة طويلة، مثلما يتضح مثلا من خلال النظر إلى الأدب العربي -إذا قرأناه فقط!
وفي حين كان الأميركيون يبحثون عن إرهابيين في العراق وأفغانستان ويخلقون خلال هذا البحث إرهابيين جددا ويخوضون ضد الإرهاب حروبا “غير متكافئة” لا أمل فيها، كان يتم تجاهل التهديد الأكبر الموجود أمام أبوابنا: ليس أسامة بن لادن، بل “فلاديمير بن بوتين”، وهو زعيم لديه أسلحة بيولوجية وكيماوية ونووية. وبدلا من مراقبته عن كثب، بقينا نرعاه ونغذيه طيلة عشرين عاما، وسامحناه على غزواته في جورجيا وفي شبه جزيرة القرم وفي دونباس، وتحملنا هجماته بالغازات السامة واغتيالاته السياسية في مدننا، وعقدنا معه صفقات وأعمالا تجارية بقدر ما يمكن -وما نزال نفعل ذلك.
والرئيس الروسي فلاديمير بوتين غير مضطر للاختباء في الكهوف ولا يحتاج إلى مفجرين انتحاريين، ويبدو عليه أنه رجل مهذب جدا يرتدي بدلة سوداء وربطة عنق حمراء وبإمكانه أن يخوض حربه بحسب اتفاقية لاهاي للعام 1907 الخاصة بقواعد وأعراف الحرب البرية. وفي حال لم تكن دباباته وطائراته كافية من أجل تحقيق النصر، فلديه أسلحة نووية كافية لتدمير العالم.
وبذلك، كان خبراؤنا الأمنيون يطاردون العدو الخطأ. والعدو الصحيح هو الذي بات يطاردهم ويخيفهم. فهل ما يزال بإمكاننا تصديقهم في قولهم أنه يريد في الحقيقة غزو أوكرانيا فقط ولا يسعى إلى صراع كبير مع “الغرب”؟ إلى حرب عالمية حقيقية تجعل من بوتين اسما لن تنساه البقية الباقية من البشرية؟
الحرب تم الإعلان عنها مسبقا
يذكر فشل خبرائنا الأمنيين التام هذا بالفترة التي سبقت الحادي عشر من أيلول (سبتمبر). فعلى الرغم من أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) كانت تراقب أسامة بن لادن وبعضا من الأشخاص المشاركين لاحقا في الهجوم، إلا أنها لم تخلص إلى الاستنتاجات الصحيحة وقللت من حجم الخطر، وانهمكت في جدالات حول الاختصاص. وبعد أيام قليلة، تم اختطاف طائرات ركاب وتوجيهها إلى مركز التجارة العالمي.
وقد تعلم الأميركيون جيدا من هذا الحدث وحذروا هذه المرة من وقوع الحرب. ولكن حتى في هذه المرة كان الوقت قد تأخر جدا. وكان قرار بوتين بالهجوم قد تم اتخاذه منذ فترة طويلة -مثلما يمكن قراءة ذلك من مقاله المنشور في شهر تموز (يوليو) العام الماضي (2021) “حول وحدة الأوكرانيين والروس التاريخية”.
كان الخطر الصادر عن بوتين وحاشيته معروفا منذ زمن طويل -حتى أن الأصدقاء والزملاء القادمين من روسيا إلى أكاديمية فنون العالم في مدينة كولونيا الألمانية لم يعودوا إلى وطنهم، روسيا، في العام 2014. وكانوا يعرفون السبب.
في العام 2015، وصف عالم الاجتماع الروسي، ليف غودكوف، السيناريو المستقبلي على النحو الآتي: “تصعيد النزاع المسلح بين الأطراف المتنازعة يبدأ في أوكرانيا ويجبر بوتين على أمر الجيش الروسي بغزو المناطق الشرقية والجنوبية في أوكرانيا بشكل مباشر وعلني. ومن الممكن أن نتوقع نوعا من مغامرة حرب لم يكن تصورها ممكنا حتى الآن -مثلا، الهجوم على كييف والاستيلاء على وسط أوكرانيا مع ضم المناطق الشرقية والجنوبية إلى روسيا فيما بعد”.
مع الرئيس الروسي في قارب واحد
صحيح أن ليف غودكوف اعتقد أن بوتين سيخسر مثل هذه الحرب ومن بعدها السلطة أيضا، ولكن هذا مجرد عزاء ضعيف. وكما في حالة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، فقد حقق المهاجم هدفه في اللحظة التي بدأت فيها الحرب. وهذا الهدف يكمن في إلقاء عالم ما قبل الحرب المكروه عند المهاجم في سلة نفايات الماضي. وقد نجح بوتين في ذلك. إذ إن ما كان يعد قبل الرابع والعشرين من شباط (فبراير) 2022 أمرا بديهيا صار بعيدا اليوم مثل ثقافة الترفيه والمرح في التسعينيات بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001.
وذلك لأن قواعد اللعبة تتغير أيضا تلقائيا مع الهجوم. ومن أجل المواكبة، يجب علينا اللعب بحسب قواعد جديدة. ونتيجة لذلك نحن نتغير ولن نعود كما كنا: فقد كنا حتى وقت قريب دعاة سلام أزليين لم نكن نريد إنفاق المال على التسلح؛ أو كما كنا قبل الحادي عشر من أيلول (سبتمبر): أتباع تعددية ثقافية حالمين. وعندما يتم اكتساح الجميع، فلن يكون هناك مخرج جيد لأي أحد ولا نصر من أي نوع. وأفضل ما يمكن أن نأمله هو الحد من الأضرار. وسواء أردنا ذلك أم لا فنحن الآن في قارب واحد مع بوتين. ومن حولنا محيط من مستقبل غير مؤكد، حيث يمكن لأي طرف أن يسحب السدادة ويغرق القارب.
اليمينيون في أوروبا: طابور بوتين الخامس
تلقي حرب بوتين أيضا ضوءا غير متوقع على الخلافات السياسية الداخلية بين أوروبا والولايات المتحدة الأميركية خلال الأعوام العشرين الماضية. وعلى أبعد تقدير، منذ “أزمة اللاجئين” في العامين 2014 و2015، دخل اليمينيون الجدد -الذين يعرّفون أنفسهم منذ الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) خاصة من خلال معاداة الإسلام- في تحالف مع بوتين ودعايته على نحو يذكرنا بعبودية الشيوعيين الغربيين لموسكو خلال الحرب الباردة.
إن حقيقة سير منتقدي الإسلام وبوتين بخطوة منسجمة ليس شيئا تافها، بل هي جزء من حسابات بوتين لهذه الحرب -ومن الممكن أن تحسمها في يوم ما لصالحه. وذلك على أبعد تقدير عندما يفوز جمهوريو ترامب في الانتخابات الأميركية المقبلة. دعونا نتذكر أن ترامب ما يزال لديه حساب مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي، الذي أراد في العام 2019 الحصول على أسلحة مضادة للدبابات من الولايات المتحدة الأميركية. وقد طلب منه ترامب مقابل ذلك محاكمة ابن بايدن، الذي يعمل في أوكرانيا. وأفضى هذا الخلاف إلى إجراءات عزل ترامب. ولذلك هناك خطر كبير من أن أميركا بقيادة جمهوريي ترامب يمكن أن تتخلى عن أوكرانيا وأوروبا وتتركهما وشأنهما وتستأنف التجارة مع روسيا من جديد.
تجدد خطاب صراع الحضارات
تبقى جاذبية بوتين السلطوية لليمينيين الجدد قوية أيضا لأنه يستخدم خطابا مناهضا للغرب ومعروفا منذ زمن طويل. وهو يمنح مفهوم صراع الثقافات والحضارات القديم والمحافظ حياة جديدة. وبهذه الطريقة يتم تعزيز منطق التمييز والإقصاء ويمكن بعد ذلك تطبيقه في أي وقت على الآخرين: على المسلمين والأفارقة والصينيين وغيرهم.
ولذلك، فإن التوسل بـ”الغرب” المحتفى به حاليا لا يبشر بالخير. فقد بات هذا الـ”الغرب” على وشك الانخداع بدعايته الخاصة. لم يهاجم بوتين (حتى الآن) “الغرب”، بل هاجم بلدا لم يكن يحسبه حتى وقت قريب أي سياسي من الغرب. وفي ظل هذه الحقيقة، فإن الادعاء الوقح بأن الأوكرانيين يدافعون عنا “نحن”، وعن الديمقراطية، وحتى عن “العالم الحر” برمته، يبدو ادعاء غريبا. وهو يثقل على كاهل الأوكرانيين -الذين يخوضون بشجاعة معركة خاسرة- بدور منقذي العالم. هذا الدور الذي لا يمكنهم ولا يجب عليهم أيضا القيام به.
ذكريات أفغانستان
يعيد هذا السيناريو ذكريات أفغانستان بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر). صحيح أننا أردنا في أفغانستان “الدفاع عن حريتنا في منطقة الهندوكوش أيضا”، مثلما كان يقال في تلك الأيام، ولكن كان يجب على الأفغان بشكل خاص أن يتحملوا منذ البداية وحتى النهاية ثمن الحرب. ولكننا على الرغم من ذلك لم نكن مستعدين بعد ذلك لاعتبار هؤلاء الأفغان “منا نحن” واستقبالهم، مثلما أظهرت عمليات الإجلاء الفاتر للموظفين المحليين الأفغان في صيف العام 2021. ومثلما لاحظ الكاتب عمران فيروز قبل فترة غير بعيدة، وعن حق، فإننا على أي حال لم نحسب قط جنود الجيش الأفغاني، الذين حاربوا في الواقع “من أجلنا” طيلة عشرين عاما، كجنود كانوا يحاربون من أجلنا.
الاستنتاج الخالي من المجاملة يفيد بأن الغرب هو “مجتمع من قيم مشتركة” أتقن فن جعل الآخرين يحاربون من أجله من دون منحهم أي مقابل حقيقي. ومن خلال ادعائنا بأن الأوكرانيين يحاربون “من أجلنا” لا يجب علينا أن نقوم بالمهمة القذرة المتمثلة في دخولنا نحن أنفسنا في مواجهة عسكرية مع بوتين. وهذا هو السبب -الأعمق والمحرم الإفصاح عنه- الكامن وراء رفعنا شعار تحديد هويتنا مع أوكرانيا وتضامننا معها.
والدليل على ذلك أننا نبتعد بمجرد أن يبدو لنا أن الأمر بات يهدد بأن يصبح مؤلما حقا، ونقول: الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي معقد جدا، والإجراءات المستعجلة تتعارض مع مبادئ الاتحاد، وفرض منطقة حظر الطيران خطير جدا، والتخلي عن الغاز والنفط الروسيين مسألة باهظة الثمن.
وبمجرد أن يتعلق الأمر بأكثر من رفع الرايات المرفرفة والاحتفاء بـ”الرئيس الأوكراني البطل” (بحسب وصف صحيفة بيلد الألمانية)، يصبح الفرق بين “نحن” و”هم” واضحا. وبقدر ما تعد مساعدة الأوكرانيين أمرا صحيحا عندما يطلبون المساعدة، بقدر ما يعد من النفاق التظاهر بأنهم متطابقون معنا وأنهم يقاتلون قبل كل شيء “من أجلنا”. وهذا غرور ونفاق تماما مثل ادعاء بوتين “بوحدة الروس والأوكرانيين التاريخية”.
والخلاصة: ليست روسيا هي الوحيدة التي تحتاج إلى إستراتيجية خروج تحفظ ماء وجهها من هذه الحرب -مثلما يقال كثيرا- بل يحتاجها أيضا الأوكرانيون و”الغرب” المنتشي بإيمانه بتفوقه. وإذا لم نتمكن من إيجاد إستراتيجية الخروج هذه فسيتحقق حلم بوتين المصاب بجنون العظمة، وسيخوض في الواقع حربا ضد “الغرب”. والخطوة الأولى نحو التخفيف من حدة التصعيد تكمن في مواجهتنا بحزم الدعاية الحربية المستعرة من جميع الأطراف وخطاب الغدر اليميني المزعج حول صراع القيم والثقافات والحضارات.
الغد