إن المتفحص في الخرائط التي رسمها الأوروبيون لأوروبا حتى بداية القرن التاسع عشر، سيجد مصطلحًا جغرافيًّا كان يسود تلك الأراضي الممتدة شمالي البحر الأسود، الواصلة بين أوروبا وآسيا، والتي تأخذ اليوم مسمى “أوكرانيا”، هو “أرض التتار الصغرى” وسيجد أن كلمة “تتار” تتكرر كثيرًا على مناطق متشعبة من تلك المنطقة في القارتين، حتى أننا نجد مدنًا بأكملها في شرق أوروبا تأخذ مسمياتهم، مثل “بازارجيك” التي أسسوها في بلغاريا، إبان استقرارهم في هذه المناطق في ظل السلطة العثمانية منذ أواخر القرن الخامس عشر.
منغوليا الآسيوية
وبالطبع كان مسمى “الصغرى” هنا تمييزًا لها عن موطنهم الأصلي في منغوليا الآسيوية التي انطلقوا منها غزاة ومهاجرين، ثم بدأوا الاستقرار بعد غزواتهم المدمرة الأولى زمن وثنيتهم في القرن الثالث عشر، في ظل دولة جنكيز خان الآسيوية الشاسعة، التي اجتاحت روسيا المقسمة آنذاك إلى إمارات، والقوقاز وشمالي البحر الأسود، واحتلت كييف (عاصمة أوكرانيا الحالية) عام 1240م، حينما كانت أهم وأكبر مدن الإمارات الروسية؛ ثم بدأوا من هناك مهاجمة شرق أوروبا.. لكن سرعان ما تفككت دولتهم هذه، ما جعل جزءًا كبيرًا من التتار (أو مغول الشمال) يرتبطون بعدها بالجزء الغربي من ذلك المجال الذي شمل معظم روسيا الأوروبية، حيث أطلق عليهم تاريخيًّا مسمى “القبيلة الذهبية”.
ونستطيع القول أن خان القبيلة الذهبية كان هو قيصر روسيا لنحو قرنين.. ومنذ ذلك الحين بدأت تتشكل ملامح ديمغرافية جديدة لهذه المنطقة، كان للتتار فيها أثر ومساهمة كبيرة، خاصة مع اعتناقهم للإسلام السُّني على نطاق واسع في القرن الرابع عشر، وتحولهم إلى عنصر من العناصر المكونة لحضارة وعالم الإسلام، ما أضفى على تلك المنطقة الروح الإسلامية وجعلها مع الوقت تتطبع بطابع إسلامي لا تخطئه عين.
دب الضعف في خانية القبيلة الذهبية على إثر الغزوات التيمورية أواخر القرن الرابع عشر، ثم انقسمت إلى أربع خانيات (إمارات) تتارية مستقلة، في قازان وأستراخان على نهر الفولغا، وسيبير غربي سيبيريا، وخانية القرم شمالي البحر الأسود.
كان هذا على الأرجح هو البداية الحقيقية لروسيا الحديثة التي انطلقت من دوقية موسكو بعد استقلالها عن التتار؛ وتوسعت سريعًا لتقضي على أول ثلاثة من هذه الخانيات أواسط القرن السادس عشر، لكن ظلت الرابعة قائمة في القرم والمناطق الواقعة بين نهري الدون والدنيبر، بعد أن دخلت في التبعية العثمانية.
وبدأت في النزاع مع الروس على وراثة أراضي القبيلة الذهبية في حوض الفولغا، وكان لها دور في تنبيه العثمانيين إلى خطرهم، فتركت أثرًا كبيرًا في الصراع الأوروبي الروسي العثماني الذي امتد لقرون.
في عام 1512م استطاع خان القرم، صاحب جراي، هزيمة الروس في إطار النزاع على ميراث القبيلة الذهبية، وضم قازان، وفي العام التالي ضم أستراخان، حتى أنه أجبر موسكو على دفع الجزية؛ لكن كان تقلد إيفان الرهيب الحُكم في روسيا (1533-1584م) إيذانا بتحول سياسة موسكو إلى التوسع جنوبًا، وهو ما أدى إلى الاقتراب من الحدود العثمانية وتهديد الطريق التجاري الآتي من الشرق الأقصى عبر تركستان إلى البحر الأسود والقرم، خاصة بعد استيلائه على قازان واستراخان بين عامي 1552-1556م، في وقت كان فيه السلطان العثماني سليمان القانوني (حكم 1520-1566م) منشغلاً بحربه على الجبهة الأوروبية ضد بيت الهابسبورغ الحاكم للنمسا؛ إلا أن ابنه سليم الثاني (حكم 1566-1574م) حاول حفر قناة تربط بين نهري الفولجا والدون، وبالتالي الربط بين البحر الأسود وبحر قزوين؛ ما من شأنه أن يعترض سبيل التقدم الروسي جنوبًا، ويفتح طريقًا للأسطول العثماني إلى بحر قزوين مباشرة، ويجعل العثمانيين في مركز يُمكّنهم من طرد الصفويين من القوقاز وأذربيجان، ويجعل من الممكن استعادة طرق قوافل آسيا الوسطى القديمة بين الشرق والغرب. لكن كان لتحطم الأسطول العثماني عام 1571م في معركة ليبانتو البحرية أمام التحالف الصليبي، أثره الكبير على عدم إتمام المشروع.
النشاط العثماني
مع ذلك، كان للنشاط العثماني التتري في الشرق أثره الكبير في وقف التوسعات الروسية بعد ذلك؛ فمن ناحية اهتم العثمانيون كثيرًا في منطقة القوقاز، وكان فتحها بالنسبة لهم يمثل الوسيلة الناجعة لإبعاد القوتين الروسية والصفوية؛ ومن ناحية أخرى اهتم التتار بمحاولات التقدم لاستعادة أراضي القبيلة الذهبية من الروس.
وبالفعل استطاع العثمانيون بمؤازرة التتار فتح القوقاز في سبعينيات القرن السادس عشر، ما أدى إلى إقامة روابط برية مباشرة مع خانية القرم مِن هذا الاتجاه لأول مرة، لكن استمرت الحرب مع الصفويين التي بدأها الفتح العثماني لهذه المنطقة لأكثر من عقد من الزمان (1579-1590م)، اعتمد فيها النجاح العثماني إلى حد كبير على قدرة واستعداد خان القرم لمساعدة القوات العثمانية في الشرق.
وعليه وصل الحكم العثماني المباشر إلى بحر قزوين عام 1583م، ومن ثم أُقر في شروان وداغستان. وبالسيطرة على إيروان ومعظم أرمينية، أقام العثمانيون خط دفاع قوي من ناحية الشرق أمام التقدم المحتمل سواء من الروس أو الصفويين من فارس؛ وضموا أذربيجان بعدها مباشرة، وقاموا ببناء أسطول كبير على بحر قزوين، مكنهم من إحكام السيطرة على الجبهة الشرقية بمساعدة خانات القرم.
لم تجرؤ موسكو في هذه المرحلة على الدخول في حرب مباشرة مع العثمانيين وتابعيهم من خانات القرم، لكنها استخدمت عنصرًا آخر بطريقة غير مباشرة للتحرش بتتار القرم والأراضي العثمانية باستخدام حرب العصابات غير النظامية، تَمَثَّل هذا العنصر في “القوزاق” وهم مجموعات من السلاف الأرثوذكس، المستوطنين لبعض المناطق الواقعة في وديان نهري الدون والدنيبر، شكلوا مجموعات من العصابات غير النظامية، برعت في حروب العصابات بشكل خاص.
قياصرة موسكو
وقد كان لتحالف قياصرة موسكو مع قوزاق الدون بداية من القرن السادس عشر أثره في امتدادهم وانتشارهم في الغرب الروسي، وزيادة قوتهم وأعدادهم بما يتناسب مع المهام الحربية الموكلة إليهم مِن قِبَل القيصر؛ هذا وقد استخدمتهم روسيا على نطاق واسع بعد ذلك، خاصة إذا لم يكن في مقدورها التحرك الصريح في مواجهة التتار والعثمانيين.. فكانت تقوم بما تقوم به ثم تُلقي باللائمة على عدم مقدرتها كبح تحركاتهم المتمردة؛ هذا فضلاً عن الاشتراك الفعال مع جيوش القيصر في استيطان مناطق مثل القوقاز وشمالي البحر الأسود، وقيامهم بما لا يستطيعه الجيش النظامي من أفعال الجرائم والإبادة والتطهير العرقي.
وقد شكل تواجدهم في الغرب الروسي شكلاً من أشكال المناطق العازلة التي كان لها أسلوب معيشتها وحكمها الخاص، تشبه في بنيتها تلك الخاصة بغزاة الحدود العثمانيين. ومن ناحية أخرى استقل قوزاق الدنيبر (أو قوزاق غربي أوكرانيا) لفترة طويلة، وكان أول ارتباط لهم ببولندا، ثم سعوا في القرن السابع عشر لتأسيس دولة غربي أوكرانيا الحالية، يعتبرها الأوكرانيون بمثابة الأساس لدولة أوكرانيا الحديثة.. إلا أن الأحوال تقلبت بهم بين روسيا وبولندا، حتى أنهم قرروا عام 1672م – هربًا من السلطتين – الحصول على حماية الباب العالي، وهو ما جعل العثمانيين يدرجون أوكرانيا على الفور كسنجق ضمن الأقاليم العثمانية، ليصير التنافس عليها بين السلطات الثلاث..
القدس العربي