جذب التوتر على الحدود الروسية- الأوكرانية اهتمام العالم أجمع حتى بلغ ذروته مع بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث تسارعت التحليلات العالمية التي تحاول فهم طبيعة الصراع ودلالاته ونتائجه واحتمالات تحوله لحرب عالمية ثالثة تدفع الشعوب ثمنها قتلا وتشريدا ودمارا وفقرا. الأمر الذي يعكس حالة الاضطراب وعدم الاستقرار العالمي، نتيجة صعود قوة بعض الدول والقوى وتراجع سيطرة وربما قوة بعضها الآخر، وهو ما سوف ينعكس على سائر دول العالم التي تحاول تدارك نتائج الاضطراب والصراع العالمي بالحد الأدنى إن لم تنجح في استثماره. من أجل ذلك لابد من توضيح بعض المفاهيم التي تفسر الأحداث وتطوراتها.
القطبية العالمية
شهد تاريخ البشرية صعود قوى امبراطورية مسيطرة على مساحات جغرافية شاسعة، وغالبا ما شهد التاريخ البشري تجاذبات وصراعات بين قوى إمبراطورية اجتمعت في ذات الحقبة الزمنية. لكن لا نجد في أي من كتب التاريخ ما يصف أي إمبراطورية مهما بلغ نفوذها بالقوة القطبية المهيمنة، حيث برز مفهوم القطبية في عصر الحرب الباردة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كتعبير عن قوة المعسكرين الاشتراكي (الاتحاد السوفييتي) والليبرالي (الولايات المتحدة الأمريكية)، فالمصطلح يتجاوز الفهم التاريخي لمصطلح الإمبراطورية، كي يعبر عن عمق وتنوع التناقضات بين الطرفين المهيمنين. وهو ما يوضحه التدقيق بالمصطلح ذاته، فلكل قطب قواها الداخلية المتنافرة إن لم نقل المتناقضة مع قوى القطب الآخر، كما الحالة التي يعبر عهنا مصطلح القطب في العلوم الفيزيائية.
إذا لا يعبر مصطلح القطبية عن قوى إمبراطورية فقط، بقدر ما يعبر عن قوتين أو أكثر إمبراطوريتين أو مهيمنتين ومتناقضتين في جوهرهما الإيديولوجي والاقتصادي والثقافي، لذا يصح وصف مرحلة ما بعد الحرب الباردة بأحادية القطبية، تعبيرا عن انتصار القطب الليبرالي وبالتالي هزيمة القطب الاشتراكي، لكن أحادية القطب لا تعني أحادية المركز المهيمن ضمنه، فكما وضحنا سابقا لطالما شهد التاريخ البشري صراع هيمنة ومصالح بين القوى الكبرى المهينة، في حين كانت المرحلة التي تبعت الحرب الباردة مرحلة القطب الواحد والمركز الواحد متمثلا بأمريكا. طبعا لم تسلم الهيمنة الأمريكية من محاولات تنازع سيطرتها، فالبعض اعتبر الاتحاد الأوروبي قوة صاعدة قادرة على منازعة أمريكا وخلق مركز ثاني منافس لها في سياق عصر القطب الواحد، لكن لم يحدث ذلك نتيجة اعتبارات عديدة أهمها الفشل الأوروبي في تبني استراتيجية خارجية موحدة عسكريا وأمنيا بل واقتصاديا، ونظرا أيضا لطبيعة الاقتصاد الليبرالي الحديث المتداخل والمتشابك. بعد ذلك راهن البعض على فرض مركز عالمي ثاني من قبل إحدى الدول الصاعدة اقتصاديا كالهند والبرازيل وروسيا وصولا إلى الصين، التي باتت التهديد الاستراتيجي الأكبر للهيمنة الأمريكية وفق غالبية التقارير الدولية والأمريكية.
يمثل صعود قوة ومكانة روسيا والصين مؤشرا على بروز قطب جديد يتناقض جذريا مع القطب الأمريكي المسيطر، قائلين نحن أمام قطب ديمقراطي تمثله الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وقطب استبدادي تمثله كل من روسيا والصين. وفق ذلك نحن أمام صراع بين محور ديمقراطي ومحور استبدادي على مستوى العالم، أوكرانيا إحدى تجلياته الأخطر، صراع قد ينزلق إلى حرب عالمية ثالثة بينهما. لا يمكن انكار مخاطر الانزلاق لحرب عالمية ثالثة، كما لا يمكن انكار جوهر الصراع على المصالح، لكن لا يكترث هذا الصراع بالطبيعة السياسية المسيطرة استبدادية أم ديمقراطية، بقدر ما يكترث بالمصالح الاقتصادية، فنحن أمام صراع تنافسي بين قوى من ذات الطبيعة الأيديولوجية والثقافية والسياسية والاقتصادية، كما توضحه النقاط التالية:
1. لم يتحول الصراع بين القطبين الليبرالي والاشتراكي إلى حرب عالمية ثالثة رغم كثرة التوترات بينهما، بل غالبا ما كنا نشهد صراعات غير مباشرة إقليمية تخوضها قوى طرفية من كلا المعسكرين، مع حرص القطبين العالمين على تجنب الانزلاق نحو حرب عالمية ثالثة.
2. يعزو الكثير من المحللين والباحثين الاقتصادين انهيار الاتحاد السوفييتي إلى طبيعة هيمنته غير النهبية، على عكس طبيعة الهيمنة الأمريكية الامبريالية، التي عملت على نهب ثروات الدول التي تسيطر عليها وعلى تطويع اقتصاداتها الوطنية بما يخدم مصالح الاقتصاد ورأس المال الأمريكي، في حين لم يمارس الاتحاد السوفييتي ذلك، بل استنزف اقتصاد الاتحاد السوفييتي من أجل خدمة وتطوير وحماية الدول التي يهيمن عليها.
3. نلحظ من التدقيق في الحربين العالميتين الأولى والثانية مدى التشابه بين العناصر الرئيسية المشاركة فيهما، والموزعة على كلا المعسكرين، إذ لم تعبر الحربان العالميتان الأولى والثانية عن صراع تناحري بين قطبين متناقضين كليا، بل عبرتا عن صراع تنافسي بين معسكرين استعماريين، يتنافسان على نهب ثروات الآخرين وعلى إحكام سيطرتهما عليهم، وهو الوضع الحاصل اليوم.
4. من الواضح أن جوهر الصراع الصيني- الأمريكي أو الأوروبي- الروسي يتمثل في التنافس على هوية الطرف المسيطر والمتحكم، من أجل نهب الثروات وإخضاع الدول كي تخدم مصالح واقتصاد الطرف المهيمن. وعليه فالصراع الصاعد اليوم يدور بين قوتين استعماريتين متشابهتين من حيث الجوهر الاستعماري ومختلفتين قليلا من حيث الشكل.
5. تختلف بنى النظام الحاكم في كل من أمريكا والاتحاد الأوروبي عن نظيره في وروسيا والصين، في حين تتشابه سياساتهم الخارجية بطبيعتها الاستبدادية القائمة على فرض رؤاهم بشكل قسري داخل وخارج المنظمات الدولية في جميع الأزمات الدولية. كما يتشابهان في دعم قوى استبدادية وإجرامية حول العالم، وبالتحديد في الدول النامية، كما في الدعم الأمريكي لجمهورية مصر وكولومبيا وأثيوبيا والاحتلال الصهيوني، والدعم الروسي والصيني لسوريا وليبيا وفنزويلا وكوبا والاحتلال الصهيوني أيضا، أي لا يتبنى أي من المحورين ثقافة ديمقراطية حقيقية أساسها الحوار واحترام رأي الأخر وحاجاته.
6. شهدت السنوات الماضية العديد من مظاهر تصدع البنية الديمقراطية الممارسة داخل أمريكا والاتحاد الأوروبي، بعضها بنيوي يتعلق بخلل يعيق تحقيق الغاية الرئيسية من المسار الديمقراطي والمتمثلة بحكم الشعب لذاته، حيث تكرس حكم الشركات والمؤسسات الاقتصادية الكبرى بدلا عن حكم الشعب لذاته. وهناك أيضا تصدعات إجرائية تتناقض مع المفهوم الديمقراطي تتجلى في الممارسات العنصرية تجاه شريحة اجتماعية متمايزة ثقافيا أو عرقيا أو جنسيا، كأصحاب الديانة الإسلامية وأصحاب البشرة السمراء والنساء.
يسوق النظام الروسي غزو أوكرانيا بحماية مجاله الأمني والحيوي من التهديدات الأوكرانية والأوروبية والأمريكية، بصورة تشابه تبريرات أمريكية سابقة في العام 1962 من أجل منع تنصيب روسيا صواريخها في كوبا، وأخرى تبرر بها تدخلاتها في أمريكا اللاتينية، وكذلك تستخدم أمريكا ذات الذرائع في تبرير حمايتها الاحتلال الصهيوني. كما استخدمتها فرنسا من أجل تبرير تدخلاتها العسكرية في أفريقيا. لكن هل يمكن القياس بالمثل هنا، بمعنى هل يحق لجميع دول العالم حماية مجالهم الحيوي والاستراتيجي والأمني؟
في الحقيقة إن ذريعة حماية المجال الأمني والاستراتيجي والحيوي هو المثال الأوضح على استبداد وعدوانية القوى العظمى، من روسيا إلى أمريكا مرورا بالصين وأوروبا، حيث تنطلق هذه الذريعة الواهية من مركزية القوى العظمى ودونية سائر دول العالم، لذا لا يحق لأوكرانيا (كوبا وأمريكا اللاتينية كذلك) حماية مجالها الحيوي والأمني والاستراتيجي من الدب الروسي (أو أمريكا)، ومن امكانياتها العسكرية المدمرة بما فيها سلاحها النووي، فأوكرانيا وفق هذا المنطق البغيض دولة ضعيفة يجب أن تبقى خاضعة لروسيا أو لأوروبا، وهو ما عليها التأقلم معه ودفع ثمنه راهنا ومستقبلا، دون أي اعتبار لحقوقها الاقتصادية والأمنية والسياسية، وكذلك دون أي اعتبار لمصالحها الحيوية والاستراتيجية.
صراع القوى الكبرى
إن الصراع الدائر حاليا في أوكرانيا والمفتوح على احتمالات كثيرة، هو صراع بين أصابع اليد الواحدة رغم التباينات القليلة هنا وهناك، فالهدف غير المعلن للغزو الروسي لأوكرانيا هو فرض روسيا الاتحادية كقوة مركزية لا يجوز تجاوز مصالحها الشرعية وغير الشرعية، وبالتالي لابد من التفاوض معها بكل صغيرة وكبيرة. في حين يمثل الصراع الأهم بين المعسكرين الشرقي والغربي أو الأمريكي والصيني، صراعا أوسع على حدود ومكانة كل من المعسكرين وطبيعة العلاقة بينهما، صدامية أم توافقية. كما قد يتطور الصراع إلى مستوى التنافس على مركز النظام العالمي، فالصين تسعى إلى خلافة الولايات المتحدة الأمريكية متسلحة بنموها الاقتصادي المتسارع وتوسع نفوذها دوليا، مقابل تباطؤ النمو الأمريكي وتراجع مكانتها الدولية، وكذلك الأمر بالنسبة لروسيا. لذا ورغم مطالب الصين وروسيا بضرورة إقرار أمريكا بقوتهما ومكانتهما العالمية، على اعتبارهم قوى مركزية متساوية في القوة والمكانة الأمريكية، إلا أنهما يسعيان عمليا إلى الإطاحة بالمكانة الأمريكية والحل عوضا عنها كمركز النظام العالمي الراهن. لذا ينعكس هذا الطموح الصيني والروسي على صراع أو تنافس روسي- صيني مواز لصراعهما مع أمريكا وبدرجة أقل مع أوروبا، الأمر الذي يقوض تحالفهما وتقاربهما أحيانا.
تبدو الصورة الروسية اليوم شديدة القتامة، إذ لم يعد غزو أوكرانيا بوابة لفرض روسيا الاتحادية قوة مركزية، بل قُزمت المكانة الروسية وكأنها دولة هامشية يخضع وزير خارجيتها ورئيسها إلى عقوبات اقتصادية كأي دولة هامشية. ومن ناحية أمنية ساهم الغزو الروسي في تضخم المخاطر المحدقة بأمن روسيا ومجالها الحيوي، إذ قدمت أوكرانيا طلب عضوية الاتحاد الأوروبي، وتسارع دول أخرى إلى تقديم الطلب ذاته كالدول الإسكندنافية وجورجيا، الأمر الذي يعني تثبيت القوات الأطلسية على حدود روسيا. كما غدت أوكرانيا جاذبة لخصوم روسيا المتعددين شعبيا ورسميا، وهو ما يرجح كفة تصاعد كلفة الغزو الروسي وفعالية المقاومة الشعبية الأوكرانية ونظيرتها الناشئة من تطوع مواطني أوروبا الشرقية بشكل رئيسي.
كما تدفع روسيا ثمنا اقتصاديا باهظا نتيجة العقوبات الآخذة بالتوسع لاسيما إن تمكنت أوروبا من الاستغناء عن المشتقات النفطية الروسية كليا، بعد إيقاف العمل بمشروع الستريم يارد 2. طبعا لا تقتصر التبعات الاقتصادية على روسيا فقط، بل سوف تطال دول الاتحاد الأوروبي أيضا، لكن يبدو أنها تكلفة قابلة للتحمل أوروبيا ولو مؤقتا، خصوصا إن تم تعويض الغاز الروسي بمصادر توريد متنوعة إفريقية وآسيوية أو عبر تفعيل الطاقة البديلة.
وأخيرا قد تساهم نتائج الغزو الروسي في تصاعد الحركات الاجتماعية الاحتجاجية داخل روسيا وداخل الدول الخاضعة لها كما في بلاروسيا والشيشان، وهو ثمن باهظ ومكلف جدا قد لا ينجح النظام الروسي في قمعه هذه المرة.
تبعات الصراع الدولي على شعوب ودول العالم:
لمسنا تبعات صراع المعسكرين الشرقي والغربي الاقتصادية سريعا، من ارتفاع أسعار السلع وشحها، إلى تصاعد أزمة سلالات التوريد. كما يمكن تلمس بعض التبعات السياسية واللوجستية التي تعبر عن مسارعة المعسكرين المتنافسين إلى جذب دول العالم الطرفية، الأمر الذي يمنح الدول الطرفية قوة سياسية يمكن استثمارها. وكأننا في مرحلة مساومات دولية، فغالبية الدول قادرة على مساومة الولايات المتحدة والصين وروسيا، وهو ما نلاحظه في المناورات الإيرانية والخليجية التي تساوم كلا المعسكرين على ثمن اصطفافهم، وذات الأمر نلمسه في مناطق أخرى حول العالم.
هناك تبعات غير مباشرة بعيدة المدى قد لا نلمسها قبل عام من الآن، تتمثل في تراجع اهتمام المعسكرين وتراجع قدراتهم على التدخل في شؤون الدول الداخلية، وهو ما يعني تراخي في القبضة الأمنية والعسكرية الأمريكية والروسية، نتيجة تزايد حدة التنافس وربما التصادم بينهما. الأمر الذي يمنح الشعوب والأنظمة الوطنية الساعية إلى تحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي، فرصة مواتية لفك التبعية وخط مسار وطني تقدمي مستقل يعتمد على دعم الكتلة الاجتماعية الشعبية فقط، وبالتالي فالفرصة مواتية أمام الشعوب من أجل تغيير التوازنات الجيوسياسية، وتحقيق التغيير الجذري إن نجحت في تحديد أهدافها وبرامجها وتنظيم نضالاتها وتحركاتها.
وأخيرا وعلى مستوى القطبية العالمية والنظام العالمي السائد بعد حسم الصراع الدولي، يمكن القول إننا مقبلون على نظام عالمي أشد بؤسا وظلما من النظام المسيطر حاليا، سواء فشلت روسيا والصين في تحويله إلى نظام متعدد المراكز أم نجحت في ذلك، فإنجازات الإنسانية الحضارية والثقافية معرضة لخطر السحق تحت ضربات المعسكرين المتصارعين، وهو ما يهدد القيم الإنسانية التقدمية والمفاهيم الديمقراطية على المستوى العالم أجمع، كما تمظهر في تصاعدا الخطاب العنصري المقيت وتراجع الحريات الفردية والجماعية، وعليه لا طائل يذكر لشعوب العالم من صراع المعسكرين، التي عليها أن تخط مسارها التحرري والتقدمي المستقل عنهم.
القدس العربي