اعتكاف زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، من أول رمضان حتى 9 شوال، منح القوى السياسية والحزبية العراقية فسحة للملمة أوراقها وتحديث ملفاتها ونَقْلِ بعضها لـ”الاستثمار الشعبي والسياسي”.
تجلى ذلك في عملية التصفيات القانونية لبعض قضايا خصوم وأعداء سابقين، وتحديدا بعض القضايا ذات الطابع الإشكالي، ووضْعِها ضمن حيز الفضاءات الرحبة، فمن كان بالأمس متهما ومطارَدا بأحكام من العيار الثقيل، “الإرهاب” مثلا، أو قضايا فساد واستغلال السلطة، أصبح هو وقضيته وخواتيمها مثالا على “نزاهة” القضاء الذي حسم الأمر “بإنصاف” المعنيين وطيّ صفحة قضاياهم.
بالمقابل منح الاعتكاف المؤقت للتيارات والقوى الأخرى هامشا لإجراء مراجعات لمواقفها، وإجراء عملية حساب لمصالحها، ولأهمية تموضعها بين القوى الأخرى الساعية إلى ترتيب الأولويات بناء على التطورات والتقلبات التي قد تفاجئ الجميع خلال الأيام القليلة المقبلة.
هذا جانب من الحكاية العراقية، التي فجرت نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية بواكيرها منذ أن أفصحت صناديق الاقتراع عن تحول جذري، وربما يمكن وصفه بـ”انقلاب” في مزاج الناخب العراقي، وذلك بإعلانه التمرد على التابوهات الطائفية والولائية والحزبية الضيقة، التي قيدته وتقيده منذ عام 2003، وترجَمَها بمواقف عبر الاقتراع الواعي بصوته.
رسمت نتائج الانتخابات البرلمانية مشهدا مغايرا لما كان متوقعا، ولما أراد البعض له أن يكون، وأعطى المشهد الجديد الانطباع بأن كثيرا من القوى السياسية العراقية بدأت أولى خطوات الفكاك من قيود الذهنية المليشياوية الولائية التغريبية، وأعادت توجيه السفينة العراقية إلى شواطئ بلاد الرافدين بأشرعة أهلها.
لقد أدركت القوى والأحزاب جميعها أهمية خوض التنافس السياسي على قاعدة معادلة “أغلبية مقابل أقلية” في البرلمان العتيد استنادا إلى النظام البرلماني في الحكم، الذي ينص عليه دستور البلاد، وليس استنادا إلى حجم كتلة مليشياوية هنا، وجماعات مسلحة خارجة عن سيطرة الدولة هناك، ولا بتعليمات وتوجيهات خارجية مناقضة لمصلحة العراق وهوية شعبه. لم تستطع بعض الكتل والقوى المهزومة عبر صناديق الاقتراع ابتلاع النتيجة. بقيت تناور وتلوح بأوراق معهودة، تارة بالتهديد على المستوى الأمني، وأخرى على مستويات تعطيلية، ظلت حبيسة فلسفتها الخاصة القائلة بالهيمنة الطائفية الولائية في إدارة شؤون العراق، فتقلصت خياراتها الوطنية. أخفقت في حراكها لتشكيل كتلة برلمانية أكبر عدداً من منافسيها، فلجأت إلى التعطيل.
من الطبيعي أن تسعى التكتلات والقوى في أي نظام برلماني إلى تشكيل قوة وازنة من خلال الائتلاف مع قوى أخرى لحيازة أغلبية تمكّنها من إدارة شؤون البلاد وتنفيذ الاستحقاقات الأخرى، كتسمية رئيس للحكومة وانتخاب رئيس للبلاد.
نجح التيار الصدري -كونه الفائز بأكبر عدد من مقاعد البرلمان المنتخب (73 مقعدا من أصل 329)- في تشكيل ائتلاف مع قوى أخرى من مختلف الانتماءات الطائفية والمذهبية والعرقية، التي حصدت مقاعد متفاوتة العدد في البرلمان، وتم اختيار عنوان “إنقاذ وطن” لها (170 مقعدا)، معياره هو التقاء المقاربات السياسية لأجنحة هذا التكتل الائتلافي عند نقطة محورية تتمثل في العمل من أجل المصلحة العليا للبلاد والعباد وفق ما ينص عليه الدستور وتشكيل حكومة “أغلبية وطنية” تتمثل فيها القوى والتيارات الحزبية والسياسية المنبثقة عن الانتخابات، بصفتها كتلاً برلمانية بصرف النظر عن المذهب والعرق والطائفة.
إخفاق البرلمان في تنفيذ الاستحقاقات الدستورية ضمن مُهَلها المحددة كان انعكاسا دقيقا لحجم التناقضات والتباينات بين كتله.
مرت نحو الستة أشهر على إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية دون أي بارقة أمل حتى الآن على وجود مخرج من الأزمة السياسية التي تزداد تعقيدا. الحديث اليوم عن سيناريوهات متعددة، بينها الذهاب إلى الانتخابات مجددا. “الإطار التنسيقي” متمسك بطرحه أن تكون حكومة توافقية، وائتلاف “إنقاذ وطن” مصمم على تشكيل حكومة أغلبية وطنية.
رغم ضبابية المشهد السياسي والحزبي الحالي في العراق، فإن المخاض المحتدم الذي يمر به يحمل في ثناياه ملامح عهد عراقي سياسي وحزبي وشعبي مختلف عن صيغه السابقة، التي عاشها خلال التسعة عشر عاما الماضية، ملامح خَطَّها وعيُ الإنسان العراقي المدرك لضرورة القطيعة مع ماضٍ مثقل بالاستلاب والتغريب، فأعلن إرهاصاتها الأولى بصوته وعكَسَ إحساسه بقيمة وجوده وأهميته.
إذا كان خيار الذهاب إلى الانتخابات مجددا رهاناً لدى بعض القوى والتيارات، فإن الرهان على الوعي الوطني لدى الإنسان العراقي أثبت جدارته ودوره في تعديل موازين القوى وترجيحها للخيارات الوطنية الكبرى، التي قد تتبلور بصيغة أوضح بعد التاسع من شوال.
العين الاخبارية