المتتبع لسلوك أمريكا في التعامل مع العملية الروسية في أوكرانيا يكتشف حرص الولايات المتحدة على جمع أكبر عدد من الدول إلى جوارها في مواجهة روسيا.
هذا ليس في أوكرانيا فقط، وإنما أيضا فيما هو قادم من مواجهات تستعد لها الولايات المتحدة من الآن فصاعدا، خاصة مع التصعيد الروسي الكبير، والاتجاه إلى التلويح باستخدام الخيار النووي كأحد الأدوات التي تسعى روسيا لتوظيفها، بدليل استعراض عضلاتها العسكرية والاستراتيجية بنشر صواريخ “سارمات” مؤخرا، وتأكيد قدرة الردع الكبرى، التي تمتلكها، في محيطها الإقليمي والدولي، وأنها لن تتوقف عند مرحلة معينة، وهو ما تدركه الولايات المتحدة، خاصة أن اتفاقيات ضبط التسلح بين الطرفين ستحتاج إلى مراجعة محددة في ظل ما سيجري من تطورات في نمط وتوجه العلاقات.
ومن ثم فإن التوقع بصدامات استراتيجية ومواجهات من نوع آخر ما تزال واردة بقوة، خاصة أن تطوير منظومة العقوبات وتوسيع مجالاتها تم بالفعل، وتنتظر الولايات المتحدة تبعات ما يمكن أن يؤثر على الاقتصاد الروسي، وما يمكن أن يلقي بتبعاته في بنية هذا الاقتصاد من تأثيرات تراهن الإدارة الأمريكية عليها، وفي الوقت نفسه ما تزال روسيا ماضية في نهجها، رافضة أن تلتقي عند منتصف الطريق مع الولايات المتحدة ودول الناتو.
الموقفان لن يلتقيا إذًا، والقوة العسكرية ستظل عنوانا لما سيجري من تطورات مهمة تسعى الولايات المتحدة لإقرارها، وهو ما برز في حشد أكبر عدد من الدول المؤيدة للنهج الأمريكي، والدعوة لإعادة تسليح أوكرانيا، ومدها بالسلاح منذ بدء العمليات العسكرية، والرئيس الأوكراني يطالب بمزيد من الأسلحة لمواجهة روسيا، والتي خالفت توقعات الغرب بأنها “ستقوم بحرب خاطفة”، فهذا لم يحدث، وإن كانت الرهانات العسكرية في الأوساط الغربية تتجه فعليا إلى شهر مايو الجاري لإعلان انتهاء العمليات في ذكرى النصر الكبير لروسيا على النازية، ما يعني أن ما تحقق بالفعل مرتبط بأهداف كبرى بصرف النظر عن طبيعة التعامل اللاحق مع وضع أوكرانيا فعليا بعد تدمير قدرات كييف من الصواريخ والطائرات الحربية، بل والمدن الأوكرانية، مثلما جرى في خاركيف، فضلا عن محاصرة المدن الكبرى شمال وجنوب أوكرانيا، وبعد السيطرة على المنشآت النووية، وأهمها تشيرنوبل، مع التركيز على مناطق الشرق والجنوب، مع العمل على تقسيم أوكرانيا إلى شطرين، والوصول إلى إقليم بريدنوستروفيه في مولدفيا. وهذا يعني إحكام السيطرة على أوديسا، المحاذية له في جنوب غربي أوكرانيا، إضافة للسيطرة على دونباس.
الرسالة هنا أن الجانب الروسي يريد تطوير تحركاته وإنجاز المهام المحددة، رغم التكلفة العالية التي يدفعها في أكبر حرب اقتصادية شنها الغرب على الاقتصاد الروسي، إضافة لحالة عدم الاستقرار في العالم، وغلبة الطابع العسكري في حل وتحليل الصراعات الراهنة، والمرشحة للتصاعد في الفترة المقبلة.
لهذا ذهبت الولايات المتحدة إلى العالم لتبني شراكات عسكرية وسياسية، كما جرى مؤخرا في قاعدة رامشتاين الجوية الأمريكية بضم 20 دولة لمواجهة سيناريو ما يجري عبر المجموعة الاستشارية الأمنية، والغريب أن الإدارة الأمريكية تولي اهتماما كبيرا في المدى المنظور لكيفية التعامل مع وضع أوكرانيا عقب انتهاء المشهد العسكري الراهن ووقف إطلاق النار وبدء الدخول في مرحلة التفاوض الجاد، وهو ما سيثير -إن تم دون ترتيبات أمنية واستراتيجية- الكثير من التبعات السياسية والاستراتيجية الكبرى، خاصة بالنسبة للتعامل الأمريكي مع مستقبل الجناح الشرقي للحلف، وما يمكن أن يتكرر لاحقا مع أي دول أخرى في شرق أوروبا، وحال استمرار احتلال روسيا لمناطق في أوكرانيا وفقا لمتطلبات الأمن القومي الروسي، وهو الأهم، وفي ظل بعض الرهانات التي تتردد حول إطالة أمد الحرب، وتأثيراتها في علاقات واشنطن والدول الغربية، وبالتالي فإن النقاش سيستمر حول تأثير الـ800 مليون دولار الممنوحة لأوكرانيا، والتي تضمنت شحنات من مدفع الهاوتزر وأجهزة الرادارات المرتبطة بها، وطائرات مسيرة من طراز فينكس جوست، إضافة لما سترسله الولايات المتحدة من 14 نظام رادار يمكنها اكتشاف المدفعية الروسية وهجمات النيران غير المباشرة، وإرسال بريطانيا دبابات تي-22، وكذلك الجانب الفرنسي الذي سيرسل مدافع سيزار الفرنسية ذاتية الدفع عيار 155 ملم، وغيرها من الدول الأعضاء في حلف الناتو.
والمعنى هنا هو استمرار الدعم العسكري المهم للجانب الأوكراني إلى حين اتضاح الصورة سياسيا واستراتيجيا.
العين الاخبارية