قال لي الأستاذ علي بكر الخبير في شؤون الحركات الإرهابية بالمركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة، إن تنظيم داعش فاق كل الحركات المتطرفة المماثلة في أمرين؛ الأول أنه ذهب إلى مدى أقصى من كل الذين سبقوه في استخدام العنف والذبح والقسوة في عمومها، والإعلان عنه بكل الوسائل. والثاني الإعلان عن دولة «الخلافة» فمس وترا حساسا لدى كل هذه الجماعات والحركات، فالتهب خيالها وحماسها للمشاركة. والنتيجة لكلا الأمرين أن «داعش» رغم خسائرها الكبيرة باتت قادرة على تعويض هذه الخسائر بما تدفق عليها من متطوعين ومشاركين في حملتها على كل المسلمين.
انتهى حديث الخبير، ولكن نتائجه لم تنته، لأن لهذا النوع من التميز ما يترتب عليه؛ فمشاهد الذبح من الوريد إلى الوريد بينما يوجد خلف المذبوح رجل طويل مقنع ويلبس الأسود من قمة الرأس إلى أخمص القدم، وخلفه يرفرف علم «داعش» الأسود أيضا وكل ذلك على خلفية من رمال صفراء هو رسالة إعلامية لأصحاب القلوب والعقول المريضة. هي رسالة موجهة لجماعات تعاني من اضطرابات نفسية حادة يرجح أنها تعلمت وتمتعت بعمليات القتل الذي يعقب اختطاف الضحية وتعذيبها وتعريضها لعمليات من القهر النفسي والألم الجسدي البشع. هؤلاء المجرمون نفسيا يشعرون بانجذاب إلى تلك النماذج النقية من الإجرام الذي تجري ممارسته تحت شعارات وأسماء نبيلة. هنا تختلط حالات الجنون مع نوبات من تصور الوصول إلى حالات من الإيمان المطلق لم يسبق إليها أحد من قبل.
هي بالتأكيد ليست جديدة إطلاقا على أتباع الأديان مختلفة، فحتى في الديانات المصرية القديمة عرف المتعصبون كيف يحولونها إلى حروب مقدسة فيها ممارسة بشعة لقتل البشر وحرق المدن وجرى ذلك من حكام مصر النوبيين في الدولة الحديثة. وتكرر الأمر بعد ذلك في الديانة المسيحية خلال العصور الوسطى حينما جرت رحى الحرب بين الكاثوليك والبروتستانت؛ وحينما جاء دور محاكم التفتيش في إسبانيا بعد خروج العرب من الأندلس فإنها فاقت ما سبقها وما لحقها من غرام بالعنف، ووله بالتعذيب، وحب للقتل. الغريب أن كل ذلك تكرر بحذافيره مضافا له التقدم في تكنولوجيا التعذيب والذبح مع الديانات «المدنية» مثل الشيوعية والنازية والفاشية والعسكرية اليابانية وكلها تركت بصماتها على تاريخ التعصب والتطرف في الجولاج الروسي، وفي معسكرات الاعتقال في ألمانيا وبولندا، ومثيلاتها في منشوريا وكوريا واليابان.
في كل هذه الحالات كانت هناك فكرة ملهمة للأنصار من نوع أو آخر، وكانت فكرة «الخلافة» فيها كثير من السحر بحيث لم يكن مهما معها أن الدولة الوطنية الحديثة تجاوزتها، وخلاف المذاهب، وتنوع الاجتهاد، واختلاف ظروف الجغرافيا السياسية والاستراتيجية؛ كلها جعلت الفكرة من حفريات الماضي. وربما كان ذلك تحديدا ما ألهم الأتباع والجاهزين للاتباع بالسمع والطاعة، حيث كانت استعادة الماضي جزءا من الآيديولوجيا. فلم تكن استعادة الماضي الروماني بعيدة عن الفاشية، ولا كان استجلاب فرسان التيتون الألمان بعيدا عن النازية؛ وحتى عندما لم يكن هناك تاريخ محدد تم اختراع حالة من السعادة الأبدية والعدالة المطلقة مع الشيوعية في زمن سوف يأتي في يوم ما إذا مات من أجله ما يكفي من البشر، وإذا ما نزفت دماء كافية تروي شجرة الاشتراكية. ولعل ذلك يفسر تلك القدرة على التجنيد من دول كثيرة بما فيها تلك القائمة في أوروبا وأميركا الشمالية حيث يعاني شباب المسلمين من حالات الاغتراب النفسي أحيانا والمكاني في أحيان أخرى حينما يعيشون في أحياء خاصة بهم يعانون فيها من الفقر والشعور بالانسحاق المادي والمعنوي.
هكذا جاء هذا الجيل الثالث من الإرهابيين المتشحين برداء الدين الإسلامي. وبينما جاء الجيل الأول مع الإخوان المسلمين الذين أخذ إرهابهم شكل «التنظيم الخاص» الذي يقوم باغتيال الخصوم وترويع المختلفين، والذي منه خرج جيل ثان وجد في أفكار سيد قطب المنحرفة مبررا للتطرف والتشدد والقيام بعمليات الإرهاب الجماعي والذي تعمق حتى وصلنا إلى تنظيم القاعدة الذي استفاد من الحرب الأفغانية ضد السوفيات لكي يكون كوادر عسكرية وآيديولوجية تسللت إلى كافة أركان العالم الإسلامي. ولما كانت المحصلة النهائية للجيلين الأول والثاني لا تزيد على ما تقدمه من قتل وترويع وإرهاب بينما تستمر الدولة الحديثة في مسيرتها؛ فإن ما عرفت بثورات «الربيع العربي» خلقت الفرصة لجيل ثالث يريد هذه المرة أن يرسي الفكرة على أرض الدولة حيث يمكن تحقيق الخضوع المطلق لشعب وجماعة سياسية. ومن هنا كان اهتمام «داعش» بالأرض والاستيلاء عليها وإخضاع من عليها من المواطنين، وسك العملة، وشن الحملات الإعلامية، وخلق حالة من اللامركزية العسكرية تتيح أكبر قدر من المرونة حتى في زمن إقامة السلطة المركزية ذاتها. اللامركزية هذه جرت على مستوى الأقطار وأعطيت اسم «الولايات»، كما أنها كانت على مستوى العمليات العسكرية حيث تكونت جماعات صغيرة، لكل منها مهمة عسكرية تحضر لها وتجهز من حيث جمع المعلومات والاستخبارات ومراقبة أنماط السلوك، ولكنها لا تتحرك للضرب إلا وفقا لخطة مركزية يجري استخدامها وفق استراتيجية محددة.
هذا النمط يبدو واضحا في الحالة المصرية حينما أعلنت جماعة أنصار بيت المقدس ولاءها وتسليمها لجماعة «داعش»، وتبنت أسلوبها في استخدام هذه الجماعات المتفرقة المرتبطة بعمليات إرهابية بحيث لا تنطلق إلا عندما يحل موعدها، وبعدها يعود للمجموعة المركزية عملية الإعلان والمعالجة الدعائية. كل ذلك على ما يبدو فيه من تصميم واحتراف يعيش نقاط ضعف واضحة. فالبشاعة والقسوة خلقت تحالفات دولية وإقليمية تجعل موازين القوى في غير صالح «داعش» وأنصارها حتى بات ما يقتضيه الأمر هو ترجمة الموازين إلى واقع على الأرض وذلك بدأ تدريجيا في العراق ومصر وسوريا. والتمركز في أرض دولة حتى ولو كانت للخلافة يشي بالعنوان الذي تتوجه له الضربات، بل وذلك الذي توجد فيه القيادة وأعصاب الاتصال. والاعتماد على أفراد وجماعات من المرضى النفسيين سرعان ما يكون فيه تهور وخروج على القواعد، وأحيانا يكون فيه قدر غير قليل من المزايدة على من سوف يكون أكثر أصولية وعنفا وإرهابا. ومن ينظر إلى كتاب الانقسام بين «القاعدة» و«داعش» يوحي بما هو قادم خاصة مع اشتداد الضغوط وانحسار الأرض وجفاف الحبال السرية للتمويل والإمداد بالعدد والعتاد. والأرجح أنه في النهاية إما أن تتحول هذه الجماعات إلى حالات من الكمون العاكس للاكتئاب الجماعي، أو أنها تأخذ بناصية الانتحار في مشاهد تراجيدية مروعة.
عبد المنعم سعيد: الشرق الاوسط
http://goo.gl/ErbJFO
الكلمات الدلالية :الارهاب،داعش، مليشيات،القاعدة،الحركات المتطرفة،الحملات الاعلامية،العالم الاسلامي.