هل كانت رهانات النظام الإيراني وقيادته، بمختلف مستوياتها الإرشادية والسياسية والأمنية والعسكرية، بقدرتها على إدارة لعبة التفاوض وفرض تنازلات على العواصم الغربية والإدارة الأميركية، والحصول على ما تريده في مفاوضات إعادة إحياء الاتفاق النووي، عندما أعطت الإشارة إلى البرلمان، الذي جاءت به من طابع واحد يسيطر عليه التيار المحافظ بكل أطيافه وأجنحته التقليدية والمعتدلة والمتشددة، لإقرار القانون الإشكالي الذي منع المفاوض النووي، ومعه أي حكومة الاقتراب من أي تسوية قد تتضمن بعض التنازلات، أو تعيد إحياء الاتفاق بصيغته القديمة، تحت عنوان “الإجراءات الاستراتيجية للدفاع عن حقوق إيران النووية وإلغاء العقوبات الاقتصادية”.
لم يكُن، على ما يبدو، النظام والجهات التي سمحت بإقرار هذا القانون وشاركت في صياغته ووقفت خلف النواب والمؤسسات الدستورية المعنية لتمرير إقراره بسرعة، وكأنه قُدّم بصيغة “معجل مكرر”. لم تكُن هذه الجهات تتوقع أن يتحول هذا القانون إلى حجر عثرة في طريق ما كانت تطمح إليه بأن تكون الجهة التي يكون لها الفضل في إعادة إحياء الاتفاق والخروج من دائرة العقوبات وإعادة إنعاش الاقتصاد الداخلي وتسلّم الأموال المجمدة في الخارج أو تلك التي لا تسطيع الحصول عليها بسبب العقوبات الأميركية.
الاستراتيجية القصيرة الأمد، والتفكير الذي لا يأخذ إمكانية حصول تطورات، قد تعرقل أو تعيق تحقيق الأهداف التي رسمها وسعى إلى تحقيقها من وراء هذا القانون أو غيره من الإجراءات، تحوّل إلى قيد يكبل مواقف النظام ويمنع، أو يفرض عليه التردد قبل اتخاذ أي قرار، أو اعتماد توجه فيه نوع من التنازل أو التراجع. في حين أن هدفه كان قطع الطريق على الرئيس السابق حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف وفريقه التفاوضي بقيادة عباس عراقتجي إنجاز الاستحقاق النووي وإعادة إحياء الاتفاق وفك الحصار الاقتصادي، من دون النظر إلى الخسائر المحتملة الناتجة من هذه الاستراتيجية. أي أن القيادة والدولة العميقة، فضلتا التضحية بفرصة الانتهاء من أزمة الاتفاق من أجل تعزيز موقعهما، وتحسين شروط مرشحهما لمنصب رئيس الجمهورية وقيادة السلطة التنفيذية إبراهيم رئيسي الذي كان ترشيحه وفوزه في الانتخابات بمثابة “التزكية” على الرغم من وجود مرشحين آخرين في مقابله.
لا يمكن اتهام حكومة روحاني بالتفريط بالمصالح الإيرانية الوطنية والقومية والاستراتيجية خلال المفاوضات التي قادتها منذ عام 2013 وصولاً إلى توقيع الاتفاق في يوليو (تموز) عام 2015، لكنها استطاعت استغلال وتوظيف الهامش الذي حصلت عليه من المرشد الأعلى لدفع المفاوضات بالاتجاه الإيجابي وتحت أعين المرشد والخطوط الحمراء التي رسمها ووضعها بعد اطلاعه على مسودة الاتفاق والتهميش عليه بالموافقة بحسب تأكيد روحاني. أي أن الأخير وفريقه لم يتخذوا أي خطوة تتعارض مع توجهات النظام وقيادته، ومن دون التنسيق مع “الميدان” الذي تحكّم بمسار المفاوضات وقيّدها بشروطه، ووظفها في خدمة مصالحه واستراتيجيته في مناطق النفوذ لتعزيز مواقعه ودور النظام في الإقليم.
روحاني وظريف لم يتعاملا مع المفاوض الأميركي بناء على مبدأ “حسن النية”، بل اعتمدا الواقعية والبراغماتية، وحاولا تحصين الاتفاق ونتائجه بالحدود التي كانت تسمح بها المفاوضات وتجاوب الإدارة الأميركية التي كان على رأسها باراك أوباما. وقد سعيا إلى تكريس هذا المبدأ مع استئناف المفاوضات قبل نحو عام مع وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض، بعد تعطيل استمر لأربع سنوات مع وجود الرئيس دونالد ترمب على رأس الإدارة، والسياسة التصعيدية التي اتخذها بقرار الانسحاب من الاتفاق وفرض عقوبات مشددة، وحتى استهداف قاسم سليماني، رمز النظام وذراعه التي تمسك بملف الدور والنفوذ الإيراني في الإقليم، وهي العملية التي قطعت الطريق أمام إمكانية استئناف المفاوضات في عهده.
قد لا تكون مفاجئة التطورات التي شهدها الملف النووي في هذه الأيام، وإدراجه من جديد على جدول أعمال الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومجلس الحكام التابع لها، لأن المسار الذي اعتمده المفاوض الإيراني ومعه أجهزة الحكم والقرار في النظام، كانت تؤدي إلى هذه النتيجة الحتمية. لأن القبول بمبدأ العودة أو استئناف التفاوض لم يكُن من باب استغلال الفرصة للوصول إلى تفاهم يعيد إحياء الاتفاق، بل انطلق من مبدأ رفض أي نوع من أنواع التسوية ومحاولة ابتزاز الطرف المقابل، تحديداً الأميركي، الذي لم يتردد في الإعراب عن مخاوفه من إمكانية انتقال إيران إلى التصنيع العسكري النووي، جراء الخطوات التي قامت بها في مجال تخصيب اليورانيوم كردّ على قرار ترمب الانسحاب من الاتفاق، وهو ما يعيد خلط الأوراق من جديد ويفتح الباب أمام احتمالات معقدة، ليس أقلها إمكانية المواجهة العسكرية.
استراتيجية المماطلة واللعب على الوقت التي مارستها إيران في التعامل مع مخاوف الوكالة الدولية وأسئلتها، التي تعبّر بدورها عن مخاوف وقلق جميع العواصم المعنية بالبرنامج النووي، بخاصة مماطلتها في تقديم الإجابات الوافية عن الأسئلة التي سبق أن حملها مدير الوكالة إلى طهران، وسمحت له، بناء على ما سمعه من نوايا بالتعاون الإيجابي، أن يبشر بقرب استئناف المفاوضات التي باتت على خواتيمها بعد إنجاز الجانب الفني وحل 98 في المئة من البنود العالقة.
لجوء الولايات المتحدة الأميركية والترويكا الأوروبية إلى تقديم مسودة مشروع قرار يدين إيران بعدم التعاون، وطرحه على مجلس حكام الوكالة، ليس سوى نتيجة طبيعية لسياسة المماطلة وفرض الشروط التي مارسها النظام الإيراني في المفاوضات، بالتالي، فإن اتهام طهران للوكالة الدولية بتسييس قراراتها والخضوع للمطالب الإسرائيلية بعد زيارة رافايل غروسي إلى تل أبيب، لن يمنعا بالحد الأدنى من صدور بيان عن الوكالة يدين إيران، إذا ما كان المجتمع الدولي لا يرغب بإقفال الباب نهائياً أمام المفاوضات. لأن صدور قرار عن مجلس الحكام سيفتح الطريق لإعادة الملف إلى مجلس الأمن الدولي، بحيث تصبح الطريق مفتوحة أمام إعادة تفعيل العقوبات وإعادة إدراج إيران تحت البند السابع.
من هنا، فإن دوائر النظام دخلت في حالة من الاستنفار، بحثاً عن الآلية الأقل ضرراً للرد على إجراءات الوكالة الدولية، ليس بينها قرار الانسحاب من الوكالة الدولية ومعاهدة الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل، ومن الممكن أن تلجأ إلى قرار وقف التعاون التام مع الوكالة وعدم تسليم أي من المعلومات التي تسجلها كاميرات المراقبة، التزاماً بالقانون الذي أقرّه البرلمان في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2020، بالتالي، إسقاط جميع الرهانات التي عقدها الفريق الحاكم بتوظيف المفاوضات لتحسين صورته الداخلية من بوابة الأزمة الاقتصادية.
اندبندت عربي