في الثاني من يونيو الحالي عقد مجلس الأمن جلسة طويلة على مستوى وزاري، حول موضوع المساءلة وعدم الإفلات من العقاب لمنتهكي القانون الدولي ومرتكبي الفظائع وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية. بدأت الجلسة الساعة العاشرة صباحا وانتهت في حدود السابعة مساء، تحدث فيها 65 مندوبا، بين وزير أو نائب وزير أو سفير، إضافة إلى رئيسة المحكمة الجنائية الدولية جوان دونوهيو، والمفوضة السامية لحقوق الإنسان ميشيل باشيليه، وأستاذ القانون الدولي بجامعة أوكسفورد دابو أكاندي، وممثل عن الاتحاد الأوروبي وممثل عن دولة فلسطين العضو المراقب بالأمم المتحدة.
وقد ترأس الجلسة رئيس وزراء ألبانيا إيدي راما، حيث ترأس بلاده مجلس الأمن الدولي لشهر يونيو. وهذه هي المرة الأولى التي تنتخب فيها ألبانيا لعضوية مجلس الأمن غير الدائمة للسنتين 2022- 2023. وكعادة رئاسة المجلس، تقوم الدولة بعقد عدد من الاجتماعات حول مواضيع تهم تلك الدولة، وتعني لها الكثير وترغب في تسليط الضوء عليها. وقد اختارت ألبانيا هذا الاجتماع المهم حول المساءلة وقضية الإفلات من العقاب، في اليوم الثاني لرئاستها ودعت إليه عددا كبيرا من الدول التي مثلت على مستوى الوزارء.
إلا إسرائيل
في لقاء مع الصحافة المعتمدة في الأول من يونيو، أعلن السفير الألباني فريد خوجا، أن هذا الاجتماع لا يعني أبدا التركيز على أوكرانيا وما يرتكب فيها من انتهاكات فظيعة، بل سيشمل كل المنتهكين في كل مكان. وقال: «لقد شاهدنا منذ فترة طويلة انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، ويكافح المجتمع الدولي من أجل مساءلة مرتكبي الجرائم الخطيرة. لا يمكن ويجب أن لا يصبح الإفلات من العقاب أمرا عاديا، فالسلام لن ينتشر من دون مساءلة، ومن دون جلب مرتكبي الجرائم الفظيعة، أو الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة إلى العدالة في أسرع وقت ممكن». كلام جميل ومتوازن، ويدل على موقف نبيل، لكن كل شيء يتراجع وينهار عندما يطرح اسم إسرائيل. سألت السفير خوجا ما إذا كانت المساءلة ستشمل إسرائيل التي تنتهك القوانين الدولية صباح مساء وتدافع بقواتها عن احتلال غير شرعي، بينما تتهم مقاومة الاحتلال الشرعية بأنها عمل إرهابي، وطلبت منه أن يجيب عن سؤالي بكل وضوح، من دون استعمال لغة غامضة لا يفهم منها شيء. راح السفير يلف ويدور على الجواب ويعلن عن حق الفلسطينيين في دولة مستقلة، ويؤكد أيضا حق إسرائيل في الأمن والأمان. كعادة كل السفراء الذين يسألون عن انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي، تهرب خوجا من الإجابة عندما تعلق الأمر بإسرائيل.
غياب فلسطين
بعد انتهاء جولة الكلمات الطويلة، تبين أن المقصود أساسا هو استهداف روسيا بسبب حربها على أوكرانيا. الآن استفاق الغرب وتذكر أن هناك قانونا دوليا يجب أن يطبق وألّا يفلت أحد من المساءلة أو من العقاب، أما الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها الدول الكبرى الأخرى، خاصة الولايات المتحدة فليس مجالها الآن. موضوع الساعة أوكرانيا وأوكرانيا فقط. أما ما ترتكبه إسرائيل من فظائع يومية ضد شعب أعزل محاصر محتل مقهور فهذا ليس مهما عند هذه الدول. هل نضع اللوم على ألبانيا البلد الصغير الذي لا يزيد عدد سكانه عن ثلاثة ملايين، ويعتبر من أفقر دول أوروبا بعد انفراط عقد الشيوعية عام 1992؟ ألبانيا انضمت لحلف الناتو عام 2009 وهي تلهث هذه الأيام وراء دول الاتحاد الأوروبي لقبولها عضوا في الاتحاد، وهي على استعداد من أجل ذلك أن تكون ملكية أكثر من الملك في موضوع الحرب على أوكرانيا وتغييب قضية فلسطين؟ اللوم كل اللوم نضعه على كثير من المندوبين العرب الذين غابوا عن الاجتماع، ولم يتكلم في الجلسة إلا أربعة متحدثين فقط وهم مندوبة الإمارات لانا نسيبة، لأنها عضو بمجلس الأمن الدولي وعليها أن تدلي ببيان في أي جلسة للمجلس، ومندوب المغرب عمر هلال، الذي فقط تذكر موضوع تجنيد الأطفال كجريمة حرب. وكلا المندوبين الإماراتية والمغربي، لم يتطرقا لا من قريب ولا من بعيد لموضوع انتهاك إسرائيل للقانون الدولي، وضرورة إخضاعها لنظام المساءلة وعدم الإفلات من العقاب. المندوبان اللذان تطرقا لموضوع انتهاكات إسرائيل هما الأردني والفلسطيني المكتويين مباشرة من انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي. مندوب الأردن محمود ضيف الله لحمود، ذكـّر المجلس بجريمة اغتيال الصحافية شيرين أبو عاقلة وعجز المجلس عن تصنيف تلك الجريمة جريمة حرب. وأكد أن الاعتبارات السياسية حالت دون أن يلعب المجلس دورا حقيقيا مؤثرا، عندما ترتكب الجرائم في مناطق النزاعات المسلحة. أما كلمة ممثل فلسطين ماجد بامية نائب السفير الفلسطيني، فقد خصصها بالكامل لانتهاكات إسرائيل للقانون الدولي، وارتكابها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية أمام عيون العالم، كان آخرها وليس أخيرها اغتيال الصحافية شيرين أبو عاقلة بدم بارد. ودعا بامية مجلس الأمن الدولي لاحترام قراراته التي اعتمدها وتطبيقها على إسرائيل. إن عدم تخوف إسرائيل من أي مساءلة يجعلها تمعن في ارتكاب مزيد من الجرائم الكبرى لأنها في مأمن من أي مساءلة.
قوانين تفصل لتطبيقها على الفقراء والدول الضعيفة، أما الدول القوية فهي التي تفرض تفسيرها الخاص للقانون الدولي وتريد للعالم أن يبلع تلك التفسيرات
الغريب أن دولا عربية مهمة تغيبت عن الجلسة ولم تأخذ الكلمة ما يثير لدينا الشكوك بأن سجل بعض تلك الدول ليس نظيفا، وبأنها تخشى نظرات بعض الدول إلى عيون المتكلم والتي تقول «حتى أنتم تتكلمون عن القانون الدولي والإفلات من العقاب؟ انظروا إلى سجلاتكم أولا».
روسيا والنفاق الغربي
من أقوى الكلمات التي ألقيت كانت كلمة السفير الروسي فاسيلي نيبنزيا، الذي سخر من الدول الغربية التي فجأة تذكرت وجود القانون الدولي على خلفية العملية العسكرية الخاصة لبلاده. لكن هذه الدول لم تعرف أن هناك قانونا دوليا عندما شنت دول الناتو الحروب على يوغوسلافيا السابقة أو العراق أو أفغانستان أو ليبيا أو سوريا «الان تذكرتم القانون الدولي؟ هل كان القانون الدولي آنذاك عقبة مزعجة؟ ألم يعمل الغرب على استبدال القانون الدولي بنظام قائم على القواعد التي يسنها هو، مدعيا أن هذه قواعد عالمية؟» كما ذكّر السفير بقيام الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بتطبيق عقوبات شخصية على المدعي العام السابق للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا، وقضاة المحكمة عندما طرحوا موضوع النظر في الجرائم التي ارتكبت في أفغانستان والعراق. وها هو المدعي العام الجديد كريم خان، أبطل تلك الادعاءات. كلمة قوية ألقاها السفير نيبنزيا كما توقعنا، لكن السفير البليغ، تناسى أيضا عن عمد وسبق إصرار، مسألة جرائم إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، لأن علاقات بلاده بتلك الدولة مهمة للغاية تجعله يغض الطرف عن قيام ذلك الكيان بقصف مواقع سورية حساسة منها مطار دمشق الدولي، تحت سمع وبصر بلاده، من دون أن ينهر تلك الدولة عن تلك الانتهاكات من أجل استمرار العلاقات الطيبة بينهما.
المندوب الصيني داي بنغ، أثارته فقط تصريحات ممثلي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة حول ارتكاب الصين لإبادة جماعية، وفرض عمل قسري على مسلمي الإيغور قائلا، إن تلك المزاعم لا أساس لها من الصحة في شينجيانغ، مؤكدا أنها «أكاذيب القرن، بكل بساطة. لا يمكن لأي قدر من هذه الأكاذيب أن ينكر الحقيقة الواقعية المتمثلة في أن شينجيانغ تتمتع بالاستقرار والازدهار، وأن شعبها يعيش في سلام وسعادة». أما قضية فلسطين فقد غابت هي الأخرى عن كلمة المندوب الصيني.
العقوبات الفردية وانتهاك القانون الدولي
نقطة أخرى في ممارسات الولايات المتحدة تعرضت للهجوم باعتبارها انتهاكا للقانون الدولي وهي فرض عقوبات أحادية ضد العديد من الدول، مثل إيران وكوبا ونيكاراغوا وفنزويلا. موضوع العقوبات كان محور خطابي السفيرين الإيراني والفنزويلي. السفير الإيراني سماها «إجراءات الهيمنة القسرية». والفنزويلي قال إن 2.5 مليار شخص في أكثر من 30 دولة، يعانون من الآثار السلبية للتدابير القسرية الانفرادية غير القانونية التي تفرضها الولايات المتحدة. وقال منذ عام 2015، طبقت الولايات المتحدة بشكل غير قانوني على فنزويلا أكثر من 500 إجراء قسري من جانب واحد، أدّت إلى خسائر بشرية ومالية عظيمة. كما قامت بسرقة ما لا يقل عن 30 مليار دولار من حسابات وممتلكات فنزويلا خارج البلاد. «أليست هذه الإجراءات انتهاكا للقانون الدولي ويجب أن تخضع للمساءلة»، سأل السفير.
هذا هو المجتمع الدولي في أبشع صوره.. قوانين تفصل لتطبيقها على الفقراء والدول الضعيفة، أما الدول القوية فهي التي تفرض تفسيرها الخاص للقانون الدولي وتريد للعالم أن يبلع تلك التفسيرات. الآن تصطدم القوى الكبرى مع بعضها بعضا وتكشف عوراتها وعيوبها. لعل الحرب في أوكرانيا تفرز في المستقبل عالما أكثر تعددية وتوازنا وإنصافا.
القدس العربي