في الأسبوع الماضي، استأنفت إيران والولايات المتحدة لفترة وجيزة المفاوضات غير المباشرةالرامية إلى إحياء الاتفاق النووي لعام 2015. وخلافاً للجولة السابقة من المحادثات في فيينا، التي تعثّرت في مارس (آذار)، استضافت قطر هذه الجولة من دون أن تضم ممثلين عن معظم الأطراف الأخرى في الاتفاقية الأصلية: الصين وفرنسا وألمانيا وروسيا والمملكة المتحدة. وعلى الرغم من انتهاء المحادثات من دون تحقيق أي إنجاز، فحقيقة أن واشنطن وطهران اتفقتا على تلك الصيغة الجديدة تشير إلى مصلحة مشتركة في إنعاش الاتفاقية. إن لدى إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن رغبة قوية بوضع حد لتطوّر البرنامج النووي الإيراني، وتجنب الاختيار من قائمة غير جذابة من الخيارات التي تهدف إلى منع طهران من تخصيب اليورانيوم بنسبة تقارب الدرجة المطلوبة لصنع الأسلحة النووية وتقليص وقت التخصيب إلى الصفر تقريباً. في المقابل، بالنسبة إلى إيران، الدافع الأقوى هو تخفيف العقوبات، الأمر الذي سيسمح لها ببيع النفط والوصول إلى مليارات الدولارات الموجودة في حسابات مجمدة. في الحقيقة، يُعتبر تخفيف مماثل مهماً بشكل خاص الآن، إذ إن الحكومة الإيرانية التي تعاني من ضائقة مالية اضطرت إلى خفض الدعم على منتجات الألبان والبيض والقمح، ما أثار ردود فعل عامة عنيفة واحتجاجات في جميع أنحاء البلاد.
من المؤكد أن المصلحة المشتركة لا تضمن تجديد الاتفاق، وفق ما أشار إليه غياب أي تقدم في الجولة الأخيرة من المحادثات. لقد أصرت طهران على أن تقوم واشنطن بإزالة الحرس الثوري الإسلامي من قائمتها الخاصة بالمنظمات الإرهابية الأجنبية، وهو أمر قطع بايدن وعداً علناً بأنه لن يقوم به. وعلى الرغم من ذلك، أعتقد أنه من المحتمل التوصل إلى اتفاق في مرحلة ما، حتى لو كان تردد كل جانب في أن يبدو وكأنه تنازل عن أي شيء إضافي، قد يعني أن الاتفاق ربما سيستغرق وقتاً حتى يتحقق. وبالطبع، من الممكن أيضاً ألا تتغلب الولايات المتحدة وإيران على خلافاتهما مطلقاً، أو أن طهران، التي تعتقد أن واشنطن ستتنازل تحت ضغط أكبر، ستسرّع برنامجها النووي، وتجمع ما يوازي 60 في المئة من اليورانيوم المخصب في قنابل متعددة، وتبدأ بالتخصيب إلى 90 في المئة (درجة صنع الأسلحة) وتنشر مخزوناتها النووية، وتمنع المفتشين الدوليين من دخول أراضيها حتى لا يرى العالم ما تفعله.
من الواضح أنه في حالة عدم إبرام أي اتفاق، أو إذا بدأت إيران بتكثيف برنامجها النووي كجزء من استراتيجيتها التفاوضية، فستحتاج الولايات المتحدة إلى استراتيجية أفضل لردع طهران. ولكن حتى إذا توصل الطرفان إلى اتفاق، فستحتاج إدارة بايدن إلى تحسين ردعها. ويرجع ذلك إلى أنه بمجرد رفع العقوبات المتعلقة باتفاق 2015، لن تكون إيران بحاجة إلى اتفاق مكمِّل، مثل الاتفاق “الأطول والأقوى” الذي كانت إدارة بايدن تروّج له سابقاً. علاوة على ذلك، فالبنود الرئيسة لاتفاق 2015 “تنتهي” عام 2030، ما يترك إيران بلا قيود على حجم بنيتها التحتية النووية، أو عدد أجهزة الطرد المركزي أو جودتها، أو مستوى تخصيبها. بعبارة أخرى، بحلول عام 2030، قد لا تشعر إيران بوجود سبب وجيه يمنع تقدمها نحو نقطة تكون فيها على بُعد خطوة من القدرة على صنع أسلحة نووية. وفي ذلك السياق، فإن إحياء الاتفاق سيمنح إيران كثيراً من الموارد. وكما يحب الإسرائيليون وغيرهم من العرب أن ينبهوا، فإذا تمكّن الإيرانيون خلال تعرضهم للعقوبات من توفير عدد كبير من الأسلحة للميليشيات التي تقاتل بالنيابة عنهم في العراق ولبنان وسوريا واليمن، تخيل ما الذي يمكنهم فعله عندما تُرفع العقوبات.
من أجل تحسين الردع الأميركي على المدى الطويل، يجب على واشنطن أن تصرح علناً عما ستخسره طهران إذا واصلت السير في طريقها الحالي، وما الذي ستكسبه من تغيير مسارها. وينبغي أن يكون الهدف هو بث شعور الخوف لدى إيران مجدداً من العمل العسكري الأميركي، من دون حشر البلاد في زاوية بلا مخرج دبلوماسي. من ناحية، يجب أن يعرف قادة إيران أنه من خلال المضي قدماً، سيخاطرون بفقدان البنية التحتية النووية بالكامل، بعد أن استغرق تطويرها عقوداً عدة. ومن ناحية أخرى، عليهم أن يفهموا أنه سيتم رفع نظام العقوبات الواسع، بقيوده العملية وتأثيره المخيف في التعامل مع إيران، إذا تخلوا عن خيار امتلاكهم الأسلحة النووية وتوقفوا عن إكراه جيرانهم.
لا مجال للشك
لم تنجح إدارة ترمب في تطوير استراتيجية ردع فاعلة، وحتى الآن الأمر سيان بالنسبة إلى إدارة بايدن. فقد فشلت سياسة “الضغط الأقصى” التي انتهجها الرئيس دونالد ترمب في ردع الهجمات الإيرانية، سواء كانت مباشرة أو عبر وكلاء، ضد القوات الأميركية في العراق وسوريا، والناقلات في الخليج العربي وخليج عمان، والبنية التحتية النفطية في السعودية. وحتى عملية القتل التي استهدفت قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، لم توقف الهجمات بالوكالة ضد الولايات المتحدة، على الرغم من أنها ربما جعلت إيران أكثر حذراً بشأن قتل الأميركيين.
وأثبت نهج بايدن أنه لم يكُن أكثر فاعلية، إذ إنه وافق على مطلب إيران بإجراء مفاوضات غير مباشرة، وسمح للصين بشراء النفط الإيراني من دون عقوبة، وأزال ميليشيا الحوثي المدعومة من إيران في اليمن عن قائمة الجماعات المصنفة رسمياً بالإرهابية. وبدلاً من أن تلطّف إيران سلوكها، يبدو أن جرأتها قد ازدادت. خلال رئاستَي باراك أوباما وترمب، كان تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المئة يُعتبر استفزازياً، علماً أنه الخط الفاصل بين التخصيب المنخفض والعالي. أما حاضراً، فإيران لا تقوم بتخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المئة من دون عواقب فحسب، بل أيضاً مضت قدماً في مشروعها فبلغت نسبة تخصيبها لليورانيوم 60 في المئة، ما يشير إلى أنها لا تخشى رد فعل أميركياً قوياً. وحتى الآن، كانت محقة في ذلك. (أخبرني مسؤولون أمنيون إسرائيليون أن هناك نقاشاً داخل النظام الإيراني حول ما إذا كانوا سيخصّبون حتى نسبة 60 في المئة، علماً أن بعض المسؤولين جادلوا بأن هذه الخطوة محفوفة بالمخاطر. ولا شك في أن أولئك الذين أيدوا التخصيب يشعرون بأنهم كانوا على صواب، كما أن ثقتهم ازدادت بأن الولايات المتحدة لن تستخدم القوة في استجابتها).
وبهدف ردع إيران عن تطوير برنامجها النووي والسعي وراء سياسات إقليمية مدمرة، ستحتاج واشنطن إلى استراتيجية متكاملة تعتمد على الأدوات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والاستخبارية والسيبرانية والعسكرية. وستحتاج أيضاً إلى توضيح موقفها، ليس بشكل سرّي فحسب، بل أيضاً علانية. كذلك، على واشنطن إخطار إيران، واشتراط أن يتوقع المجتمع الدولي، أنها ستردّ بكل الوسائل المناسبة إذا اكتشفت تحركاً نحو سلاح نووي. كجزء من اتفاق 2015، تعهدت إيران بعدم السعي للحصول على سلاح نووي أو حيازته أو تطويره. نظراً إلى أن الولايات المتحدة ملتزمة علناً منع القنبلة النووية الإيرانية، فعليها أن تُلزم إيران بتعهدها سواء أعيد إحياء اتفاق 2015 أو لا. وعوضاً عن القول إن جميع الخيارات مطروحة على الطاولة، وهو تصريح شائع لدرجة أن لا أحد يأخذه على محمل الجد، يجب على إدارة بايدن أن تقول إنه إذا تحركت إيران نحو استخدام سلاح، فستعرّض بنيتها التحتية النووية بالكامل للخطر. وقبل الإعلان عن هذا التغيير في الموقف جهراً، يتعيّن على الإدارة أن تشرح سراً أسبابها المنطقية لحلفاء الولايات المتحدة وأن تحشد دعمهم. وحينما تتواءم الولايات المتحدة مع حلفائها بشأن إيران، سيدرك آية الله العظمى علي خامنئي وقادة إيرانيون آخرون أنها أكثر قدرة على رفع الكُلف التي تتكبدها إيران. علاوة على ذلك، من المهم إبقاء إيران معزولة سياسياً. في الواقع، لا يرى القادة الإيرانيون أن بلادهم تشبه كوريا الشمالية. وفي نظرهم، هم ورثة حضارة عظيمة وليسوا مملكة متقوقعة.
يجب أن تسعى الولايات المتحدة إلى إعادة إحياء خوف إيران من العمل العسكري الأميركي من دون حشر البلاد في الزاوية.
نظراً إلى أن القادة الإيرانيين يشكون في أن الولايات المتحدة ستستخدم القوة من أجل منعهم من تطوير برنامجهم النووي، فستحتاج إدارة بايدن إلى اتخاذ خطوات عدة لجعل سياستها المعلنة ذات مصداقية. أولاً، يجب أن تصدر تعليمات للقيادة المركزية الأميركية بإجراء تدريبات، سواء بمفردها أو مع حلفائها في الشرق الأوسط، من أجل التدريب على شن هجمات جو- أرض على أهداف محصنة. ثانياً، يجب أن تجري مناورات تزوّد فيها الطائرات الإسرائيلية بالوقود، وهو أمر سيكون ضرورياً في أي هجوم إسرائيلي فعلي على إيران. ما لا ينبغي أن تفعله هو ما حدث في مايو (أيار): أذكر أنها قامت آنذاك بتزويد الطائرات الإسرائيلية بالوقود خلال تمرين مشترك لمحاكاة هجمات جو- أرض بعيدة. إن واشنطن تحتاج إلى إذكاء مخاوف الإيرانيين من وقوع هجوم، وليس إعطاء قادة البلاد سبباً للشك في أنها قد تتصرف عسكرياً ضدهم.
أخيراً، لإضفاء مزيد من المصداقية على سياستها المعلنة، يجب على الولايات المتحدة تقديم مساعدة عسكرية إضافية لإسرائيل. كما هو مذكور أعلاه، تحتاج إسرائيل إلى قدرات أفضل للتزوّد بالوقود بغية تهديد البنية التحتية النووية الإيرانية المحصنة بشكل مقنِع وفاعل. لذلك يجب على إدارة بايدن تسريع تسليم الناقلة من طراز “كي سي- 46” (KC-46)، وهي طائرة مخصصة لتزويد الوقود والنقل جواً وافقت على بيعها لإسرائيل، ولكن ليس قبل عام 2024 على أقرب تقدير. والجدير بالذكر أن الموافقة على تغيير الجدول الزمني إلى وقت أبكر، ربما في زيارة بايدن لإسرائيل في 13 و 14 يوليو (تموز)، قد تُبيّن للإيرانيين أن الولايات المتحدة مستعدة لتمكين خيار عسكري إسرائيلي إذا لزم الأمر. أو كبديل عن ذلك، يمكن أن ترسل إشارة مماثلة من خلال تزويد الإسرائيليين بمخترق الذخائر الهائلة (MOP) وهو عبارة عن “قنبلة خارقة للجبال” وزنها 30 ألف رطل، وتأجيرهم قاذفة “بي 2” لحمله. تفتقر إسرائيل حالياً إلى القدرة على تدمير موقع فوردو للتخصيب تحت الأرض في إيران، الذي تم بناؤه داخل جبل، لكن “مخترق الذخائر الهائلة” وقاذفة “بي 2” سيغيّران ذلك، ما يؤكد أن واشنطن مستعدة لدعم الضربات الإسرائيلية إذا لزم الأمر.
هذا لا يعني أن الولايات المتحدة سترغب بأن تعمل إسرائيل بدلاً منها، بل هي إشارة إلى إيران أن واشنطن ستتصرف بمفردها أو مع الآخرين لتدمير البنية التحتية النووية الإيرانية إذا تحركت البلاد نحو سلاح نووي. بالتالي، على قادة إيران أن يروا أي خطوة من هذا القبيل على أنها خطيرة عليهم. كذلك، يجب أن يصدقوا أن الولايات المتحدة تعني ما تقول؛ وعليهم أن يفهموا أنها تمهد الطريق لعمل عسكري إذا جعلت إيران التوصل إلى نتيجة دبلوماسية أمراً مستحيلاً.
أمر يبعث على الخوف
لكن لا يمكن لواشنطن أن تركز على برنامج إيران النووي فحسب، بل ينبغي أن تحضّر أيضاً استراتيجية لمواجهة سلوك طهران الإقليمي المزعزع للاستقرار، ومنع الأسلحة الإيرانية من الوصول إلى وكلاء إيران، وتعزيز دفاعات حلفاء الولايات المتحدة وشركائها في المنطقة، لا سيما ضد الطائرات من دون طيار وصواريخ كروز والصواريخ الباليستية التابعة للوكلاء الإيرانيين. ولتحقيق تلك الغاية، يمكن للقيادة المركزية الأميركية استخدام أنظمة الإنذار المبكر والطائرات من دون طيار والدفاع السيبراني والدفاعات الصاروخية الخاصة بشركاء الولايات المتحدة الإقليميين، على الرغم من أنه سيتعيّن على أولئك الشركاء الموافقة على القيام بذلك.
في الوقت الذي يشعر عدد من أصدقاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بالقلق من الانسحاب الأميركي من المنطقة، يُعتبر التكامل الدفاعي هو أحد السبل لطمأنتهم وإبقاء واشنطن مرسخة في المنطقة. فهي لن تستفيد من تقاسم أعباء الدفاع فحسب، بل أيضاً من جعل الأصول الموجودة لدى البلدان الفردية في المنطقة ذات قيمة أكبر. لن تحتاج الولايات المتحدة إلى توفير صواريخ دفاعية إضافية لشركائها إذا كان من الممكن إجراء تجميع فاعل للصواريخ التي قدمتها من قبل. إذاً، فمجموع تلك الأسلحة حقاً أكبر من الأجزاء الفردية. وفي ذلك الإطار، تُعدّ جهود إدارة بايدن جديرة بالتقدير، لأنها تعمل بالفعل على تطوير البنية الأمنية للدفاع الجوي والصاروخي المتكامل في الشرق الأوسط.
أخيراً، يجب أن تكون الولايات المتحدة مستعدة للردّ بقوة أكبر على الهجمات التي يشنها وكلاء إيران على القوات الأميركية في العراق وسوريا. في الواقع، تم استهداف القواعد التي تتمركز فيها القوات الأميركية أكثر من 40 مرة، لكن الولايات المتحدة لم تردّ سوى مرتين بطريقة محسوبة للغاية. يجب أن تكون ردود فعل واشنطن غير متوقعة، وأن تُبيّن للقادة الإيرانيين أن الولايات المتحدة، خلافاً لافتراضاتهم، مستعدة لاستخدام القوة ضدهم. ربما حان الوقت لاستعارة صفحة من كتيّب قواعد اللعبة الإسرائيلي [ربما حان الوقت لاعتماد واحدة من الخطط التي تستخدمها إسرائيل]، تتمثل في ضرب أهداف إيرانية، بدلاً من وكلاء إيران، في منتصف الليل وعدم الاعتراف بذلك. إضافة إلى ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة ألا تضع إيران في موقف تجبرها فيه على الرد وإلا ستفقد ماء الوجه، لكن يجب عليها في الوقت ذاته أن توضح أنها لم تعُد مستعدة للتسامح مع تلك الهجمات.
ينبغي أن يكون الهدف من الاستراتيجية المعلَنة للولايات المتحدة هو إقامة الردع. كلما زاد فهم القادة الإيرانيين بوضوح لما يمكن أن يخسروه، زاد احتمال بحثهم عن بديل دبلوماسي. بالطبع، سيتعيّن على الولايات المتحدة أيضاً أن توضح ما الذي ستستفيد منه إيران من بديل مماثل. قد يحدث تخفيف أكبر للعقوبات إذا وافقت طهران على اتفاق أطول وأقوى. وقد يكون من الممكن أيضاً إبرام اتفاق وفقاً لمبدأ “أكثر مقابل أكثر”، إذا كان القادة الإيرانيون خائفين حقاً مما قد يخسرونه من دون ذلك الاتفاق. ومن المفارقات، على ما يبدو، أن بعث الخوف مجدداً لدى إيران من الولايات المتحدة قد يكون الطريقة الوحيدة لتجنّب اندلاع حرب، والحد من التهديدات الإيرانية في المنطقة، وتحقيق نتيجة دبلوماسية مقبولة بشأن طبيعة البرنامج النووي الإيراني. ان
اندبندت عربي