الحرب في أوكرانيا وحتمية إصلاح الأمم المتحدة

الحرب في أوكرانيا وحتمية إصلاح الأمم المتحدة

ليس من المبالغة القول إن الأمم المتحدة هي أكبر الخاسرين من اندلاع الحرب الدائرة حاليا على الساحة الأوكرانية واستمرارها، خصوصا أن كل الأطراف المشاركة في هذه الحرب انتهكت ميثاق الأمم المتحدة، وتصرفت كأن المنظمة المسؤولة عن حفظ السلم والأمن في العالم غير موجودة أصلا، فروسيا انتهكت ميثاقها، حين أقدمت على استخدام القوة المسلحة ضد أوكرانيا، رغم التحريم القاطع لاستخدام القوة أو حتى مجرّد التهديد بها. والولايات المتحدة وحلفاؤها انتهكوه، حين أقدموا على فرض عقوبات اقتصادية خارج إطار الآلية المعمول بها في منظومة الأمن الجماعي، ما تسبّب في إحداث ضرر فادح بدول وشعوب لا علاقة لها بالصراع. ومعروفٌ أن ميثاق الأمم المتحدة يبيح استخدام القوة في حالتين فقط: الدفاع الشرعي عن النفس (الفردي والجماعي)، واستخدامها في إطار منظومة الأمن الجماعي، أي بقرار من مجلس الأمن وتحت إشرافه. ولأن أيا من هذين الشرطين لا يتوفر في الأزمة الأوكرانية، فمن الطبيعي أن يعد لجوء روسيا لاستخدام القوة المسلحة ضد أوكرانيا عملا غير مشروع، وانتهاكا سافرا لقواعد القانون الدولي ولميثاق الأمم المتحدة. في المقابل، وإن يعد إقدام الولايات المتحدة وحلفائها على فرض عقوبات اقتصادية على روسيا وتزويد أوكرانيا بالسلاح تصرّفا لا يتسق كليا مع منظومة الأمن الجماعي أو مع المبادئ والقواعد المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، فالعقوبات الدولية، خصوصا حين تتسبّب في إلحاق الضرر بدول وشعوب لا علاقة لها بالنزاع، لا تكون شرعية إلا حين يصدر بها قرار من مجلس الأمن، وتأتي مصحوبة بآلية تسمح بتعويض الأطراف المتضرّرة منها.

ليس من الإنصاف قبول ادّعاء أيّ من الأطراف المنخرطة في النزاع باحتكار الفضيلة لنفسه

في سياق ما تقدّم، يمكن القول إن الاستخدام غير المشروع للقوة من طرفي النزاع المحتدم على الساحة الأوكرانية، سواء اتخذ شكل العمل العسكري المفضي إلى القتل والتدمير، أو شكل العقوبات الاقتصادية التي تؤدي إلى الإفقار والتجويع، تصرف غير مقبول، ولا يسوّغ لأي طرف الادّعاء بتفوقه الأخلاقي أو المعنوي على حساب الطرف الآخر. صحيحٌ أن الفعل يختلف عن رد الفعل، وأن المساواة بين استخدام القوة المسلحة وغيرها من أشكال القوة قد تنطوي على قدر ما من التعسّف، غير أنه ليس من الإنصاف، في الوقت نفسه، قبول ادّعاء أيّ من الأطراف المنخرطة في هذا النزاع باحتكار الفضيلة لنفسه، خصوصا أن لها جميعا سوابق عديدة في الاستخدام غير المشروع للقوة المسلحة، وبالتالي، في الخروج على الشرعية وفي انتهاك أحكام العدالة والقانون الدولي. وصحيحٌ أيضا أن الأزمة الأوكرانية ليست الوحيدة الكاشفة عن عجز الأمم المتحدة وقلة حيلتها، لكنها ربما تكون أكثرها خطورة و تأثيرا على مستقبلها. وفي تقديري، لن يكون بمقدور أحد العثور على مخرج من هذه الأزمة إلا إذا ارتبط عضويا بإدخال إصلاحاتٍ جذريةٍ على هياكل عمل الأمم المتحدة وبنيته وآلياته، فالصراع على الساحة الأوكرانية تتنازعه جبهتان:

جبهة ترى أن المبادئ والقواعد والقيم التي تحكم عمل النظام الدولي السائد حاليا ليست منصفة، خصوصا أنها مفروضة من طرف واحد يسخّرها لحسابه ومصالحه الذاتية. ولأن روسيا هي الدولة الأكثر تضرّرا من هذا النظام، بحكم كونها الدولة المستهدفة من موجات التوسّع المتعاقبة لحلف الناتو، والقوة الدولية المطلوب محاصرتها ومنعها من استعادة المكانة التي سبق للاتحاد السوفييتي أن تمتّع بها في النظام الدولي ثنائي القطبية، فقد كان من الطبيعي أن تتبوأ موقع القيادة، في المرحلة الحالية على الأقل، وأن تبدي تصميما أكبر على تغيير قواعد النظام الدولي الحالي. لذا، هي لم تكتف باستخدام القوة المسلحة، وإنما تبدو مستعدّة للذهاب إلى أبعد مدى ممكن من أجل تحقيق هذا الهدف، حتى لو تطلب الأمر الدخول في مواجهة نووية. صحيحٌ أن روسيا تطلق على الحرب التي أشعلتها في أوكرانيا ابتداء من يوم 26 فبراير/ الماضي، والتي ما تزال مشتعلة، “عملية عسكرية خاصة”، تستهدف حماية سكان إقليم دونباس، وتمكين جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك من الحصول على استقلالهما، لكن الجبهة الأخرى المعادية لها لا ترى الأمور على هذا النحو. ويلاحظ أن روسيا لا تقف هنا وحيدة، وإنما تساندها، وتقف من خلفها دول أخرى، لها مصلحة واضحة في تغيير قواعد النظام الدولي، مثل الصين وإيران والهند وفنزويلا والبرازيل وجنوب أفريقيا، حتى ولو لم تشارك مباشرة في القتال الدائر على الساحة الأوكرانية.

ــ وجبهة أخرى ترى أنها الأقدر على قيادة النظام الدولي في المرحلة الراهنة، بحكم ما حققته من انتصار في الحرب الباردة، ومن ثم هي الأحقّ بتحديد (وفرض) المبادئ والقواعد والقيم التي تحكم عمل هذا النظام. ولأن الولايات المتحدة هي الطرف الأقوى في هذه الجبهة، وصاحبة المصالح الأوسع في المحافظة على النظام الدولي الحالي، فقد كان من الطبيعي أن تتولى بنفسها قيادة هذه الجبهة. وهي على قناعة تامة بأن روسيا لن تكتفي بالسيطرة على إقليم دونباس، لأن هدفها الحقيقي تغيير النظام الدولي ككل، ومن ثم تبدو مصرّة ليس فقط على منع روسيا من تحقيق أهدافها، وإنما أيضا على إلحاق هزيمة استراتيجية بها، حتى لو تطلب الأمر تحويل الحرب التي أشعلتها في أوكرانيا إلى حرب استنزاف لها تستمر سنوات. ومع ذلك، هي تبدو شديدة الحرص، في الوقت نفسه، على ألا تتورّط بنفسها أو تتورّط أي دولة عضو في حلف الناتو مباشرة في هذه الحرب، حرصا منها على تجنّب الذهاب إلى حافّة المواجهة النووية.

لن يتغيّر النظام الدولي الحالي إلى الأفضل بالضرورة، إذا انتصرت إحدى الجبهتين المتصارعتين حالياً على الساحة الأوكرانية

لن يكون في مقدور أي من الجبهتين المتصارعتين فرض إرادتها بالكامل على الطرف الآخر. صحيحٌ أن روسيا تقترب حاليا من تحقيق الحد الأدنى من أهدافها المعلنة، بالسيطرة عسكريا على إقليم دونباس، وربما عزل أوكرانيا كليا عن سواحلها البحرية، وصحيحٌ أيضا أن الرهان على مفعول العقوبات الاقتصادية، وعلى قدرة الجيش الأوكراني على الصمود في حربٍ مفتوحة بلا سقف زمني يتآكلان، لكن الولايات المتحدة وحلفاءها يملكان من الموارد والإمكانات ما يجعلهما قادرين على إطالة الصراع الدائر على الساحة الأوكرانية سنوات أخرى مقبلة، ولو بوتيرة قتالية أقل. السؤال هنا: هل يتحمّل النظام الدولي صراعا بهذا الحجم من دون المخاطرة بانهيار المعبد فوق رؤوس الجميع؟ فروسيا، ومعها الجبهة التي تقودها، سيتضرّران حتما من استمرار العقوبات الاقتصادية، على الرغم من أن هذه العقوبات قد لا تكفي وحدها لإجبارهما على الاستسلام، ومن ثم يفترض أن تكون لهما مصلحة في السعي إلى إنهاء الصراع في أقرب وقت ممكن. والولايات المتحدة، ومعها الجبهة التي تقودها، سيتضرّران كثيرا من الارتفاع المستمر في أسعار الطاقة ومن كساد يتوقع أن يدخل فيه النظام الاقتصادي العالمي بسرعة متزايدة، ومن ثم يفترض أن يكون لهما مصلحة في السعي إلى إنهاء الصراع في أقرب وقت ممكن، وكذا بقية الدول غير المنخرطة مباشرة في الصراع على الساحة الأوكرانية، خصوصا النامية منها، ستتضرّر كثيرا من ارتفاع أسعار المواد الغذائية ومواد أخرى شديدة الحيوية بالنسبة لها، إلى الدرجة التي قد تهدّد باندلاع موجة جديدة من الاضطرابات الكبرى وعدم الاستقرار، ومن ثم يفترض أن يكون لهذه الدول جميعا مصلحة واضحة في السعي إلى إنهاء الصراع في أقرب وقت ممكن. ولأنه لن يكون بمقدور أي طرف، أو جبهة أو أي فريق، فرض أجندته الخاصة للتغيير على الأطراف الأخرى، فليس هناك من مخرج آخر سوى أن تنبع الدعوة إلى إصلاح النظام الدولي من داخل أروقة الأمم المتحدة نفسها، وأن يكون إصلاح هذه المنظمة العالمية المدخل الطبيعي لإصلاح النظام الدولي ككل.

لن يتغيّر النظام الدولي الحالي إلى الأفضل بالضرورة، إذا انتصرت إحدى الجبهتين المتصارعتين حاليا على الساحة الأوكرانية، لسبب بسيط، أن الجبهة المنتصرة ستسعى إلى فرض قيمها ومصالحها على النظام الدولي الجديد، حتى ولو تحوّل إلى نظام متعدّد القطبية. لذا يمكن القول إن النظام العالمي المنشود يجب أن يكون قادرا على إدارة العولمة لصالح البشرية ككل، وليس لصالح دول أو شعوب بعينها. وأظن أن الوقت قد حان لكي تتولى الجمعية العامة للأمم المتحدة الدعوة إلى مؤتمر عالمي لا يستهدف فقط تعديل ميثاقها، وإنما كتابة ميثاق جديد لأمم متحدّة جديدة. ولضمان النجاح والفاعلية، لا بد وأن تسبق هذه الدعوة مشاورات بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، للاتفاق على مشروع لهذا الميثاق، يتضمن تحديدا للأخطار الجديدة التي تواجهها البشرية في القرن الواحد والعشرين، خصوصا الناجمة عن التغيرات المناخية والبيئية والفقر والجريمة المنظمة وغيرها، ويرسي الدعائم القوية لمؤسساتٍ تستطيع مواجهة هذه التحدّيات، ثم يعرض المشروع المقترح على الجمعية العامة للأمم المتحدة لإقراره، ولضمان أن تعمل المؤسسات المقترحة بروح الحرص على مصالح البشرية ككل، فعندما يتحول العالم بالفعل إلى قرية كونية صغيرة، من الطبيعي أن يصبح المجتمع العالمي كله مسؤولا عن كل إنسانٍ يعيش في هذه القرية، بصرف النظر عن لونه أو دينه أو جنسيته.

حسن نافعة

العربي الجديد